قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) يعني: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، فالإنسان إذا ترك الأمر لنفسه فالنفس شحيحة في المال، والمال أعز شيء على الإنسان؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا)) يعني: الأموال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال يفضح الإنسان؛ ولذلك فإن أدق الموازين التي تستطيع أن تحكم به على خلق الإنسان وأمانته هو التعامل معه بالمال؛ ولذلك لا تشهد لأحد لم يتم بينك وبينه تعامل بالمال؛ لأن المال هو الذي يفضح النفوس؛ ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية من سورة القتال: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] * {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37] أي: يحرجكم، ((تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)) قال: اللهم لا تبلنا! فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
فالشخص الذي تريد أن تحكم عليه، أو أن تعرف حقيقة أخلاقه وأمانته، إذا شهد له بحسن المعاملة في المال فهذا جزء كبير جداً من مقومات الشهادة له أو عليه؛ لأن المال هو الذي يخرج ضغائن النفس، والتنافس على المال هو سبب أكثر الصراعات بين الناس في هذه الدنيا، وهو السبب في قطع الأرحام، وفي الشحناء بين الناس، والبغي وغير ذلك مما يحصل، فلا تشهد لأحد إلا إذا كنت قد تعاملت معه بالمال، ولا تشهد لأحد إلا إذا سافرت معه؛ لأن الإنسان في الأحوال العادية يستطيع أن يضبط نفسه، ويتحكم في خلقه ودينه؛ لأنها معاملات مؤقتة، وتكون تحت جو من الرفاهية والراحة والاستيطان في بلده ووطنه، فهو يلقى أخاه أو صديقه ساعات ثم يفترقان وكل واحد في حاله، وأما في حال السفر وما يكون فيه من مشقة وعناء فإن هذا مما يكشف حقيقة أخلاق الإنسان، ولذلك سمي سفراً؛ لأنه يسفر ويكشف حقيقة أخلاق الإنسان، فمن عاشرته وتعاملت معه في السفر فهو الذي تستطيع أن تشهد له، وأما أن ترى رجلاً رائحاً غادياً إلى المسجد، وكل معلوماتك عنه أن يصلي في المسجد فهذه لا تكفي في الشهادة له بأكثر مما تراه، وبعض الناس يقول: هذا ملتحي! وكأن اللحية هذه ختم التوثيق، لا، فاللحية تساوي رجلاً في وجهه شعر فقط، لكن لا يلزم من وجودها أنه يكون شخصاً أميناً مثلاً!! لكن هذا يظن فيه بالذات في عصرنا هذا وفي مجتمعنا؛ لأن هذا سيترتب عليها ثمن ومعاناة واضطهاد وأشياء كثيرة، فمن ثبت عليه فهذه أمارة تدل على أنه متمسك بدينه، وهناك من قد يتخذ اللحية ليخدع الناس من أجل غرض دنيوي مثلاً؛ فلذلك قد يوجد شخص له لحية ومع ذلك يخون الأمانة.
إذاً: فلا تشهد لشخص في وجهه شعر أو ملتحٍ بأنه أمين أو غير ذلك، فتربية اللحية شيء وكونه يحافظ على الأمانة مثلاً شيء آخر، فالأمانة لها مقاييس أخرى.
فقوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالسعادتين، ونلاحظ هنا في قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أن الوقاية من شح النفس ليست بيد وشطارة الإنسان، وليست بجهد منه، بل هي بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ووقاية؛ ولذلك قال هنا: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ))، فالله سبحانه وتعالى يحميه من شر نفسه، فإذا رفعت عنه عناية الله صدر عنها كل سوء وشر، ولولا عناية الله وحمايته وحفظه لعبده المؤمن لتصرف على مقتضى طبائع هذه النفس الشحيحة الضنينة البخيلة، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) فيخالفها وخصوصاً في جانب المال، فإنه يغلب عليها حب المال، وبغض الإنفاق، ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالسعادتين.