قال الله تبارك وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
قوله: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) أي: من أموال محاربيها، فهذا بيان للأول، فالآية الأولى فيها: ((وَمَا)) بالواو، والآية الثانية لما كانت بياناً للأولى لم يأت فيها الواو، فتأملوا ذلك.
قوله: ((فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً))، ((كَيْ)) أي: أن فيء بني النضير حقه أن يكون لمن ذكر، ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)) أي: يتداولونه وحدهم دون من هم أحق به، وهي دولة جاهلية؛ إذ كان من عوائدهم استئثار الرؤساء والأغنياء بالغنائم دون الفقراء، ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)) أي: ما آتاكم الرسول من قسمة غنيمة أو فيء فخذوه، ((وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ)) أي: عن أخذه منها ((فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) أي: لمن خالفه إلى ما نهاه عنه.
يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً))، وفي قراءة أخرى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةٌ) بالرفع، أي: كي لا تقع دولة، على أن (كان) تامة.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة: الظَّفَر في الحرب وغيره، وهي المصدر، وبالضم: اسم الشيء الذي يُتَداول من الأموال، وقال أبو عبيدة: الدُّولة اسم الشيء الذي يتداول، والدَّولة الفعل، والمعنى: فعَلنا ذلك في هذا الفيء كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم ينتقي منها أيضاً بعد المرباع ما يشاء، وفيها يقول شاعرهم وهو عبد الله الضبي يخاصم بسطام بن قيس ويقول له: لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول فالنشيطة: هي ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحي، أي: قبل أن يرجع إلى البلد، والفضول: هو ما فَضُل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والفرس ونحوهما.
فالمقصود من قوله: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً)) على هذا كي لا يُعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية، فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه في المواضع التي أمر بها، وليس فيه خمس، فإذا جاء الخمس وقع بين المسلمين جميعاً.
وقد عقد الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى رحمة واسعة هنا بحثاً؛ لأن هذا الجزء من الآية له ذكريات، فقد كان في عهد عبد الناصر كل من يريد أن يتزلف إليه بمدح الاشتراكية والنظام الاشتراكي فإنهم يستشهدون بهذا الجزء من الآية: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، فكانوا يتلقطون أشياء من الإسلام ويجعلون منها عباءة يتغطى بها الاشتراكيون، فالشاهد من الكلام: أن هذه المبادئ هي مبادئ الإسلام، وبعض الناس كانوا يقولون: إن أبا ذر هو أول شيوعي في الإسلام!! فهذا ديدن بعض الناس فإنهم يحاولون أن يلفقوا هذه المذاهب بالإسلام كنوع من الانهزامية، أو ربما أكره بعضهم على ذلك في وقت من الأوقات حتى ألف كتاب (اشتراكية الإسلام)، والشاعر الآخر يقول لهم: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء فلا نطيل في ذلك فقد عقد الشيخ عطية بحثاً طويلاً في الرد على هؤلاء الناس، ورد فيه على من كانوا يستدلون بهذا الجزء من الآية على إباحة العدوان على أموال الناس بالغصب والمصادرة ونحو ذلك، وهذا من شؤم عهد عبد الناصر، فكانت هناك محاربة للملكية الخاصة، وهناك ما سموه بالإصلاح الزراعي، وغير ذلك من ظلمه وعدوانه على ملكية الناس، فقد عقد بحثاً طويلاً في بيان أن الملكية الفردية محترمة في الإسلام، وما دام أن الإنسان يجلب هذا المال من الحلال، ويؤدي زكاته، فلا يجوز أن ينتزع منه قهراً وغصباً.
وأشار أيضاً إلى أن الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى ناقش هذه المسألة أيضاً في تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] رداً على هؤلاء الاشتراكيين، وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71].
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا وهي قوله تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71] ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية.
وأقول: إن كلامنا الآن في هذا الموضوع لم تعد له فعالية كبيرة؛ لأن الزمن والأيام قد فضحت الشيوعية، وبينت إفلاسها، وأنها من أشد المذاهب عداوة للتراحم الإنساني، فهي توزع الفقر بالتساوي، وأما الرأسمالية فتترك بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، وإن كانت أيضاً لها عوراتها وجرائمها، وفيها استعباد للناس، والإسلام بلا شك هو المنهج الوسط، والمنهج العدل.
يقول: فتفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، فلا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها إلى وجه من الوجوه، يقول تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وبذلك يتحقق أن ما تذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ لينعموا بها، ويتصرفوا فيها كيف شاءوا، حتى نشأ ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينضم إليهم هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء حتى ما كسبوه بأيديهم، يُعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير، وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه سيأتي أناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، وهذا وعيد شديد تجده لمن فعل ذلك.
ثم يقول الشيخ عطية سالم: والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده، وفي الحديث القدسي المروي: (إن من عبادي لمَن يصلح له الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي لمَن يصلح له الغنى، ولو أفقرته لفسد حاله)، ولم يخرِّج الشيخ هذا الحديث.
فهو سبحانه يعطي بقدَر، ولا يمسك عن قَتَر، لكن مراعاة لما يصلح العباد، فالإنسان لا يدري ما الذي يصلحه.
وقوله تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا)) هذا الضمير للتعظيم والتفخيم، ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ)) أي: فلا مجال لتدخل المخلوق، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك، والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك، بل يتوقف عليه، كما قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك، ويقرّون نظام الطبقات عمال وغير عمال إلى آخر.
يقول الشيخ: ولا دليل لهم في سورة الحشر وهي قوله تعالى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل، والله تعالى أعلم.
يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
قال السيوطي في (الإكليل): استُدل بالآية على أن الفيء ما أخذ من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب، ومنه ما جلوا عنه خوفاً، أي: أن الكفار إذا رأوا جيوش المسلمين ففروا وتركوا المال فهذا أيضاً يدخل في الفيء، والغنيمة ما أخذ منهم بقتال، كما قال تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ))، خلافاً لمن زعم أنهما بمعنى واحد، أو فرق بينهما بغير ذلك الفرق.
وكأن الذي زعم أنهما بمعنى واحد رأى أن مجمل هذه الآية بينته آية الأنفال، حتى زعم قتادة أن هذه منسوخة بتلك، فقال فيما رواه عنه ابن جرير: كان الفيء في هؤلاء ثم نس