قال الله تبارك وتعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5].
(ما) في قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) في محل نصب مفعول به، والناصب له (قطعتم)، والمعنى: أي شيء قطعتم، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم على حصون بني النضير وهو غضبان عليهم حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، فأمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فقام الصحابة بقطع هذا النخل بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أنهم فعلوا ذلك وأقرهم عليه، وكان هذا الفعل إما لإضعاف اليهود وإلقاء الهيبة في قلوبهم، وإما لتوسيع المكان؛ حتى يتمكنوا من مقاتلتهم، فشق ذلك عليهم، فقال اليهود: يا محمد! ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح؟ أفمن الصلاح قطع النخل، وحرق الشجر؟ وهل وجدت في ما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ووَجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا، يعني: هذا النخل بكل الأحوال هو لنا، فإذا كان لنا فلماذا نقطعه؟! وقال بعضهم: اقطعوه؛ لنغيظهم بذلك، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع، وتحرير من قطع من الإثم، وذلك لبيان أن كل الفريقين اجتهد وأصاب، فأخبر أن قطْعه وترْكه إنما هو بإذن الله وإباحته تبارك وتعالى، وهذا يرفع عنهم الشعور بالحرج.
قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) اللينة تطلق على كل النخل ما عدا العجوة، وقد كان هذا النخل في مكان يسمى البويرة، وهو بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء.
وقال ابن كثير في قوله تبارك وتعالى: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) يعني بالإذن: القدري والمشيئة الإلهية، كما في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152]، إذاً: فـ ابن كثير يرى أن هذا الإذن إذن كوني قدري.
ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي إرادي، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، فيكون المقصود من قوله: (فبإذن الله)، أي: بإباحة الله لكم أن تغيظوا هؤلاء اليهود بحرق نخيلهم.
يقول: فلأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه القتال بناء على قاعدة الأمر بالشيء أمر به، وأن ما لا يتم إلا به فإنه يؤمر أيضاً به، والحصار نوع من القتال، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل؛ لتمام الرؤية، أي: أنهم قد يتخفون فيها ويفرون، فربما كانت هناك مصلحة في قطع النخيل؛ حتى تكون المنطقة مكشوفة فتسهل الرؤية، أو لإحكام الحصار عليهم، أو لإذلال وإرهاب العدو بحصاره، وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله وممتلكاته، وقد يكون فيه إشارة له ليندفع بحمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله، فينكشف عن حقوله، ويسهل القضاء عليه، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية التي أشار الله تعالى إليها بقوله: ((وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)) أي: بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم وهم يرون نخيلهم يقطع ويحرق فلا يملكون له دفعاً.
وعلى كل؛ فالذي أذن بالقتال، وسفك الدماء، وإزهاق الأنفس ألا يأذن بإحراق أموالهم، وما يترتب على هذا القتال من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر.
ويمكن أن يقال: إن ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبإذن الله أذن، ويكون هذا قريباً مما فعل الخضر بالسفينة، ففي الظاهر أن الخضر كان يتلف السفينة، {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، مع أن الخضر أراد من خرقها أن يعيبها بإتلاف بعضها، ليستخلصها من التقاط الملك إياها، وقال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
واعترض أيضاً المشركون على المسلمين حينما حصل منهم القتال في شهر من الأشهر الحرم كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، فتعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام، أي: أن المسلمين لم يكونوا متثبتين من دخول الشهر الحرام، فاتُّهموهم بالاعتداء على حرمة الأشهر الحرم، ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)) أي: تقاتلون أيها المسلمون! في الشهر الحرام؟ فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، فقال: ((قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)) أي: أنه أمر عظيم وخطير.
وهنا تنبيه وهو: أننا مقبلون في هذه الليلة على أول ليلة في شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم، فينبغي الحذر الشديد من أي معصية؛ لأن الله سبحانه تعالى يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، فينبغي الاحتراز الشديد من أي نوع من أنواع الظلم والمعاصي وخصوصاً القتال؛ مراعاة لحرمة الأشهر الحرم، فالمعاصي فيها قد تضاعف عقوبتها؛ لحرمة هذه الأشهر عند الله، وبسبب هجرنا الآن للتقويم الهجري فإن الناس لا يفرقون بين شهر الحرام وغيره، فالمؤمن الذي يفقه عن الله كلامه ينبغي أن يحترس في الأشهر الحرم عن أي معصية كما قال تعالى: ((فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ))، فالنهي عن ظلم النفس بالمعاصي وغيرها، وكذلك النهي عن ظلم الآخرين حاصل في كل وقت، لكنه يزداد حرمة بحرمة الزمان، كما في هذه الأشهر الحرم، فلنلتفت جميعاً إلى هذا المعنى.
يقول: فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله، والكفر بالله، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه أشد من القتال الذي ارتكبه المسلمون في الأشهر الحرام، والفتنة عن الدين أكبر من القتل الذي تستنكرونه من المسلمين.
وهكذا هنا أيضاً؛ فقد تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال، فكيف بغدرهم وخيانتهم ونقضهم للعهود؟ وكيف بممالأتهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك وهو يذكر إجلاء بني النضير، وقتل ابن الأشرف فيقول: لقد خزيت بغدرتها الحبور كذاك الدهر ذو صرف يدور وذلك أنهم كفروا برب عظيم أمره أمر كبير وقد أوتوا معاً فهماً وعلماً وجاءهمُ من الله النذير إلى أن قال: فلما أشربوا غدْراً وكفراً وجد بهم عن الحق الثغور أرى الله النبي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجور فأيده وسلطه عليهم وكان نصيره نِعم النصير إذاً: فالأقرب في الإذن بقطع النخيل أنه إذن شرعي، ويمكن أن يقال: هو عمل تشريعي إذا دعت إليه الحاجة.
قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) أي: من نخلة من نخيلهم؛ إغاظة لهم، ويطلق كما ذكرنا على النخل كله إلا العجوة، ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا)) أي: سواء ما قطعتم وما تركتم من النخيل، ((فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بأمر الله ورضاه، وذلك ليس للعبث ولا للإضرار، بل لتأييد قوة الحق، وتصلب أهله، وإرهاب المبطلين وإذلالهم، كما قال تعالى: ((وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ))، لما فيه من إهانة العدو وإضعافه ونكايته.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذكر علماء الأخبار وأئمة السير أن سبب الأمر بجلاء بني النضير هو نقضهم العهد، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة.
وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه صلى الله عليه وسلم.
ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن؛ ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريضة، فكان بنو قينقاع أول من نقض ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، ثم نقض العهد بنو النضير، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو رجل فيلقي صخرة عليه، فانتدب لذلك عمرو بن جحش بن كعب أحدهم، وصعد ليلقي عليه صخرة، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراد القوم، فقام ورجع بمن معه من أصحابه إلى المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم، ثم سار بالنا