يقول أيضاً: يفهم من قوله تعالى: ((مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) وقوله في آية أخرى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]: أن المراد به المحاربون لله ولرسوله، الصادون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء، وهم الذين أخبر عنهم قبل بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، فتشمل الآيات المشركين وأهل الكتاب المحاربين المحادين لنا، أي: الذين هم على حد منا ومجانبة لشئوننا، تحقيقاً لمخالفتنا، وترصداً للإيقاع بنا.
أي: فالمقصود من قوله: ((من حاد الله ورسوله)) وقوله: ((لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)) المجانبون لنا من أهل الكتاب والمشركين الذين هم على حد منا، نحن في جهة وهم في جهة، وهم في مجانبة لشئوننا تحقيقاً لمخالفتنا وترصداً للإيقاع بنا.
وأما أهل الذمة الذين هم بين أظهرنا ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا واستكان لأحكامنا وقضائنا، فأولئك لا تشملهم الآية؛ لأنهم ليسوا بمحادين لنا بالمعنى الذي ذكرناه، وإذا كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وجاز التزوج منهم ومشاركتهم، والاتجار معهم، وعيادة مرضاهم؛ فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً وعرض عليه الإسلام فأسلم، كما رواه البخاري، وعلى الإمام حفظهم، والمنع من أذاهم واستنقاذ أسراهم؛ لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم في كثير من الرخص المشروعة ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب من دعاه فيأكل طعامه، وأضافه يهودي بخبز شعير وإهالة سنخة، وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب، وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مر بهم من المسلمين، فقال: أطعموهم مما تأكلون.
وقد أحل الله عز وجل ذلك في كتابه، ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة.
فكره دخولها؛ وقال لـ علي رضي الله عنه: اذهب بالناس، فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا، وجعل علي رضي الله عنه ينظر إلى الصورة، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل، والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
وعن الإمام محمد بن المطهر: أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي أن تحب الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته لا لسبب آخر من جلب نفع أو دفع ضر، أو خصلة خير فيه.
فهذا آخر تفسير سورة المجادلة وهي هذه الآية الكريمة: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].