وبعضهم قال: يجوز للحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد بن معاذ، وسبق الجواب عن الاستدلال بها، والعلماء الذين أجازوا ذلك قالوا: القيام له مما يجعل له هيبة وسطوة؛ بحيث يستجيب الناس لحكمه وينقادون له.
يقول: فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار الأعاجم.
ولذلك فإن المجتمعات الإسلامية يتشبهون دائماً بالكفار ويعظمون هذا الأدب، فإذا دخل شخص فالكل يقوم ويصفق.
وعلى قول بعض العلماء: يمكن أن يكون تقبيل اليدين والرأس مثلاً للوالدين كنوع من البر والإكرام، وأنا أعرف رجل أعمال كان ناجحاً جداً رحمه الله تعالى، فكان يحكي لي أن أباه كان يحب أن يقبل يده، فيمد له يده ليقبلها، فعندما ينتهي يقول له: قم وستفلح، وبالفعل قد أفلح هذا الرجل جداً، فالشاهد أن هذا يجوز إذا كان مما يرضي الوالدين، فيدخل تحت قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كما يفعله كثير من الناس.
بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما أتى سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)، وكان سعد متمرضاً بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، ولا يعقل أن يكون هناك خير حجبه الله عن خير القرون ثم نستأثر نحن بهذا الخير؛ لأن شعارنا الذي نرفعه ونتشدق به ونفخر به: أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أي أمر يرد علينا فنحن نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه، ولا نقول كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وحينها فلا يعقل أن يختصنا الله بخير يحجبه ويحرم منه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وخير القرون.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق وهدي خير القرون إلى ما هو دونه.
وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ فهي في الحقيقة مسئولية الرئيس أو الزعيم أو المدير أو المدرس؛ إذ هو الذي ينبغي أن يعلن هذا الأمر عند الناس ويؤدبهم عليه، فيقول لهم: إذا دخلت فلا تقوموا؛ لأني أكره ذلك، ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان أحب إنسان إلى الصحابة ومع ذلك كانوا يطيعونه في عدم القيام؛ لأنهم يعرفون أنه يكره ذلك، ويبين لهم أن لنا في ذلك أسوة حسنة إلى آخره.
نعم قد توجد الآن حالات من الاضطراب يحتاج معها بعض المدرسين والمدراء وفي بعض المرافق إلى استخدام القيام، وهذا موضوع آخر يدخل في باب الفتوى، وكل سؤال له جواب خاص به، لكننا نتكلم عن القاعدة العامة.
يقول: وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له، ولا يقوم لهم إلا في اللقاء المعتاد.
الكلام هنا في موطن يكون والناس فيه جلوس، ثم يدخل عليهم واحد فيقومون له، فهذا هو محور كلامنا الآن، لكن في اللقاء المعتاد هذا أمر آخر.
فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن.
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك إصلاح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء.
الكلام هنا مقيد بشروط: وذلك بأن تكون هذه عادة عند الناس، وهي إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، أو أنهم يقصدون إهانته، وأنهم لا يحترمونه، وهذا الجائي لم يعلم العادة الموافقة للسنة، فيمكن أن يقوم له لإصلاح ذات البين، ولإزالة البغضاء والتشاحن، لكن نقول: فيقام له ثم يبين له بعد ذلك أن الامتناع سنة إلى آخره.
يقول: وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له.
أي: أما في المجتمعات الملتزمة بالسنة، المعظمين لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام وهدي السلف؛ ففي هذه الحالة إذا ترك القيام للقادم لا يحتمل أن يكون ذلك إيذاء أو احتقاراً له أو عدم احترام.
وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فإن ذلك أن يقوم وهو قاعد، وليس أن يقوم لمجيئه إذا جاء.
هذا أيضاً مما يوضحه الإمام ابن كثير، فهو يرى أن القيام في هذه الحالة ليس هو القيام المذكور في الحديث، يقول: لأن القيام المذكور في الحديث ليس القيام للجائي تلقياً له، وإنما هو القيام لمن يدخل المجلس فيقوم الناس له ثم لا يجلسون حتى يجلس، وهذا يظهر جلياً في دواوين الملوك.
هذا رأي ابن كثير، وإن كان قد يكون فيه شيء من النظر، وللعلماء وجهات نظر مخالفة لبعض، لكن هو يرى أن الحديث يشمل من هو قاعد وهم قيام، لهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القيام للقاعد، والقاعد إذا قام للتلقي فهو قائم مساو له، لكن في الصورة التي يذكرها ابن كثير يكون هذا الشخص قاعداً وهم قيام على رأسه.
قال: وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه، وصلوا قياما، فأمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضاً)، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يشبه الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
وجماع ذلك أن الذي يصلح اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد بحسب الإمكان، فمن لم يعقل ذلك أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكرنا في هذه المسألة: فمن لم يعتد ذلك.
يعني: عادات السلف، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما؛ خاصة بالذات لو كان هذا الشخص معظماً عند أتباعه، وخلفه أناس وأتباع كثيرون.
يقول ابن كثير: روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما: أنهم قالوا في قوله تعالى: ((إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا)): يعني: في مجالس الحرب، قالوا: ومعنى قوله: ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، أي: انهضوا للقتال.
وقال قتادة: ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، أي: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال أبو القاسم: إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده، فربما يشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، وقد تكون له الحاجة، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28].
ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأن كلاً منها تفسير للفظ العام ببعض أفراده وما يصدق عليه إشارة إلى تناوله لذلك؛ لا أن أحدها هو المراد دون غيره، فذلك ما لا يتوهم، فقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف في كثير من الآي، وكله مما لا اختلاف فيه كما بيناه مراراً.
حاصل الكلام: أن الآية إذا وردت فيها أقوال عدة لا تتصادم ويحتملها معنى الآية، فالأصل هو الحمل على هذا العموم؛ إذا قيل لكم: تفسحوا في المجالس، سواء قلنا: في مجالس العلم، أو صلاة الجمعة، أو صلاة العيد، أو الاجتماعات عموماً، أو الحرب ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا)) يعني: انهضوا للقتال ((فَانشُزُوا))، أو ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا))، بمعنى: أن صاحب الدار أمر الحاضرين بالانصراف ((فَانشُزُوا)) أي: انصرفوا، فتضاف إلى آداب الاستئذان، مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، فتضاف أيضاً على هذا القول إلى المعنى العام.