قال ابن منظور: كانت العرب تطلق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة: أنت علي كظهر أمي، كأنه يحرم نكاحها بهذه اللفظة؛ لأن الظهر ما يركب، وفي بعض الأحاديث: (ما لنا من ظهر سوى هذا البعير)، يعني: من مركوب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)، فالمقصود بالظهر المركوب.
وقال الرازي: ليس الظهار مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء، بل الظهر هنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] يعني: إن يعلوه، وكل من علا شيئاً فقد ظهر، ومنه سمي المركوب ظهراً؛ لأن راكبه يعلوه.
ويدل على صحة هذا المعنى: أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها.
وفي قولهم: أنت علي كظهر أمي: حذف وإضمار؛ لأن تأويله ظهرك علي، أي: ركوبي إياك وعلوي عليك حرام كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي.
أيضاً المظاهر شبه الزوجة بالأم، ولم يقل: هي أم، فكيف كان ذلك منكراً وزوراً؟ وأجيب عن ذلك بأن الكذب إنما لزم لأن قوله: أنت علي كظهر أمي، إما أن يكون إخباراً أو إنشاء، فعلى الأول: إن قصد أنها كظهر أمه فقد كذب؛ لأن الزوجة محللة والأم محرمة، وتشبيه المحللة بالمحرمة في ضبط الحل والحرمة كذب، وعلى الإنشاء كان ذلك أيضاً كذب؛ لأن معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاء لوقوع هذا الحكم كذباً وزوراً.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر في خلافته على امرأة وكان راكباً على حمار والناس معه، فاستوقفته تلك المرأة طويلاً ووعظته، وقالت له: عهدي بك يا عمر! وأنت صغير تدعى عميراً، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين: فاتق الله يا عمر في الرعية، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة:2] الخطاب في لفظ: (منكم) فيه مزيد توبيخ للعرب، وتهجين لعاداتهم في الظهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم.
أيضاً مما يناسب ذكره عن الكفارة: ما رواه الإمام الترمذي عن سلمة بن صخر البيهقي أنه قال: (كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثت أن نزوت عليها، فلما أصبحت أخبرت قومي، فقلت: امشوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: ليستفتي- فقالوا: لا والله، فانطلقت فأخبرته صلى الله عليه وسلم فقال: أنت بذاك يا سلمة؟! قلت: أنا بذاك يا رسول الله! مرتين، وأنا صابر لأمر الله؛ فاحكم فيَّ بما أراك الله، قال: حرر رقبة.
قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين.
قلت: هل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام.
قال: فأطعم ستين وسقاً من تمر ستين مسكيناً.
فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام -يعني: مقفرين لا طعام لهم- قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك؛ فأطعم ستين مسكيناً وستين وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها، فرجعت إلى قومي أقول: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمرني بصدقتكم).