يقول: فإن قيل: الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟ ف
صلى الله عليه وسلم أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينال السعادة في الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، أما من تمرد وطغى وقسى فيضرب بالحديد الراد لكل مريد، وإلى الأولين أشار بقوله: ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ))، هذه للناس الذين عندهم عقول، ويعملون عقولهم، ويتدبرون في الحجج والبينات، فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة، حيث جمع العقلاء ومن وافقهم من العامة على الخير، فأشار إليهم بقوله: ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)).
وخلاف ذلك فالجبار العنيد الطاغي القاسي القلب لا ينفعه إلا التأديب بالحديد، فقال تبارك وتعالى: ((وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ))، فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواص وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة.
قال العتبي في أول تاريخه: كان يحتمل في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيل العلة وينقى الغلة، حتى أعملت التفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حذر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة.
يعني: أن مجرد الوعظ بالأوامر والنواهي الشرعية لا يكفي في إصلاح حال الناس؛ إذ ليس كل الناس ينزجرون بالأدلة الشرعية، وبسلطان الشرع، ولذا فلابد من السلطان مع الحكم، وهذا ليس فقط في الإسلام، بل في كل النظم، يعني: لو أن دولة تريد أن تنفذ قوانينها بالمواعظ والكلام الرقيق والنظيف، والبيان أن هذا صحيح وهذا خطأ، وهيئة المرور تعمل كذا، وهيئة كذا تفعل كذا، فهل يستقيم حال الناس؟
صلى الله عليه وسلم لا؛ فمن الناس من يعمل عقله ويستجيب للحجج والبينات، ومنهم من ليس كذلك، وإنما هو مثل المسمار، ولا يمشي إلا إذا كنت تضربه على رأسه كعبد السوء، فإذا صفعته على رأسه بالقوة فإنه يمشي، ومن دون ذلك لا يتحرك، فمن الناس من يقيمه الحجة والبيان، ومنهم لا يقيمه إلا السيف والسنان.
يقول: حتى أعملت الفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد خطر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة؛ فلذا جمع الكتاب والميزان.
وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف وجدوة عقابه، وقوة عذابه، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب، متباينة الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع.
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، أي: أنه يستعمل في القتال، وأنه آله السلطان؛ كي يقهر من لا يقتنع بالحجة والبيان بالسيف والسنان.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}، أي: باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه، عطف على محذوف دل عليه ما قبله، يعني: أنزله ليعلم.
وقلنا: إن قوله تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ))، المقصود به: ليعلم علم شهادة، أما علم الغيب فلا شك أن الله يعلم ذلك منذ الأزل.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ}، أي: على إهلاك من أراد إهلاكه، {عَزِيزٌ}، أي: غالب قاهر لمن شاء.