تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام)

قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].

قيل: إن الأيام التي خلق الله سبحانه وتعالى فيها السماوات والأرض هي من الأيام الإلهية، يعني: أنها من الأيام المقصودة بقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وهي أيام الآخرة.

وقال بعض العلماء: اليوم هو من طلوع الشمس إلى غروبها، فإن لم يكن شمس فلا يوم.

وذكر الله عز وجل الأيام لتفخيم خلق السماوات والأرض، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق كل هذا الوجود بكلمة (كن) فيكون في الحال، بلا أي تراخ زمني على الإطلاق، بل بمجرد أن يأمره الله سبحانه وتعالى أن يكون فإنه يكون.

وقيل: إن هذه الأيام من أيام الدنيا، قال مجاهد وغيره: أولها الأحد وآخرها الجمعة، وذكر هذه المدة، ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها: (كوني) فتكون، ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور.

يعني أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه المدة التي هي ستة أيام خاصة، سواء قلنا: ستة أيام من أيام الآخرة كما في قوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أو كانت ستة أيام من أيام الأسبوع مع قدرته على أن يخلقها بكلمة (كن) في الحال بلا أي تراخ، لكنه شاء أن يخلقها في ستة أيام.

أي: لكي يتمهل الإنسان ويتثبت.

وحكمة أخرى: أنه خلقها في ستة أيام؛ لأن كل شيء عنده له أجل، وكل شيء له موعد ومما يبين هذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب.

فبعض الناس قد يستغرب ويقول: هؤلاء الذين يعصون الله سبحانه وتعالى من الكفار أو من الفاسقين، لماذا لا يعاجلهم الله بالعقوبة؟

و صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يهلك هذا الوجود في طرفة عين، وأن يوجد من هم أفضل منهم كالملائكة، لكن هذا يتنافى مع حكمة الابتلاء، إذ معنى ذلك أن ننتقل إلى دار الجزاء فوراً، والدنيا ليست هي دار جزاء، وإنما هي دار الابتلاء، فالحكمة من ذلك أن يدرك العباد أن لكل شيء أجله، حتى هؤلاء العصاة أو هؤلاء المحادون لله ورسوله لهم أجل في النهاية، فسوف يأتيهم عذاب الله سبحانه وتعالى، أو يأتيهم الموت، أو يأتيهم ما يشاء الله سبحانه وتعالى.

وقد قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، أي: من تعب ولا نصب، وهذا رد لقول اليهود لعنهم الله الذين ادعوا أن الله عز وجل لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام تعب والعياذ بالله! فاستراح في اليوم السابع في زعمهم.

ومن تأمل الآية وما بعدها، وهو قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] يجد أن فيها إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام أُمر أن يصبر على الكفار، وأن يوقن أن أجلهم آتٍ في الوقت الذي حدده الله سبحانه وتعالى، وفي الأجل الذي يشاؤه الله.

فكونه أتبع قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] بقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39]، فيه إشارة لهذا الأجل، خاصة أن هذه الآية جاءت بعد قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [ق:36] وحينما أتاهم العذاب، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36]، أي: ما كان لهم محيص ولا مهرب، يعني: إذا أتى أجل الله فإنه لا يؤخر أبداً، كما قال تعالى: {إنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:4]، فأثبت أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم قال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] يعني: لا تجزع، فإذا كنا خلقنا السماوات والأرض في ستة أيام لحكمة أن تعلموا أن لكل شيء أجلاً، فكذلك هؤلاء الكافرون من قريش أو من غيرهم الذين كانوا يحاربون النبي عليه الصلاة والسلام ويؤذونه ويعذبون أصحابه ويصدون عن سبيل الله، الواجب أن تصبر على ما يقولون؛ لأن لكل شيء أجلاً، بدليل: أن الله مع قدرته على خلق السماوات والأرض في لحظة واحدة خلقها في ستة أيام حتى تعلموا أن لكل شيء أجلاً، ومن هذه الأشياء التي يكون لها أجل: تأجيل العصاة والكفار وأعداء الدين.

قوله: ((ثم استوى على العرش)) قال ابن جرير: أي: هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا.

وأما كيف استوى؟ فلا يقال لله سبحانه وتعالى: كيف! فهذه من آيات الصفات التي نطبق فيها ما قاله السلف رحمهم الله تعالى: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني: نحن نثبت صفة الاستواء، والاستواء هو العلو، أما كيف استوى فلا يمكن أن يعرف أحد كيف استوى الله على العرش، فالله سبحانه وتعالى لا يقال له: كيف؛ لأنك لا تكيف الشيء إلا إذا أحطت به.

فمثلاً: إذا قلت: طائرة، دبابة، قلم، ولد، بنت، سحاب، فإن من يسمع منها كلمة يكيفها في عقله؛ لأنه رآها من قبل، لكن لو أن طفلاً حديث السن لم يعرف هذه المفردات وقلتها أمامه فهل سيفهمها؟

صلى الله عليه وسلم لا؛ لأنه لم يرها، ولم يربط بين الاسم والمسمى، فالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- لم يره أحد حتى يكيفه، كما قال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].

فلذلك لا يقال في صفاته عز وجل وذاته: كيف؛ فلا يعلم كيف الله إلا الله، كما قال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، وقال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، ولذلك يقول تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]، ويقول عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يعني: أننا نثبت له السمع والبصر، لكن هل سمعه كسمعنا؟! الجواب: لا، فسمعنا بآلة، لكن السمع في حق الله سبحانه وتعالى لا تعرف له كيفية.

فقوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، تفسيره قراءته وتلاوته كما جاء بلا كيف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015