قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:60 - 62].
قوله تعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) أي: كتبنا على كل نفس ذوق الموت.
كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
ومن كان سبيله ذلك، وكان موقناً بأنه -لابد- ميت، فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهب لما يخوف به من بعده، فيستعد للمخاوف التي تكون بعد الموت.
والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة.
أي: فالله الذي خلقكم من نطفة من مني يمنى هو سبحانه وتعالى -أيضاً- سوف يقبض أرواحكم بقدرته، فلا تغتروا بالإمهال بدليل ما قدره عليكم من الموت.
وقوله: (بَيْنَكُمُ) فيه زيادة تنبيه، كأن الموت بين ظهرانيكم، فهو موجود في وسطكم قريب جداً منكم.
ثم أكد ما قرره في قوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) يعني: بمغلوبين.
((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)) أي: بعد مهلككم فنجيء بآخرين من جنسكم.
((وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ فإذا كانت هذه مظاهر من قدرة الله تبارك وتعالى، وهي أنه كتب عليكم الموت، وهو مميتكم لا محالة، وقادر على إماتتكم جميعاً، وأن يستبدل بكم قوماً غيركم، وأن يقلبكم في أطوار وفي أحوال وفي صور وأشكال؛ فكيف يعجز عن إعادة خلقكم مرة ثانية؟! قال الشهاب: والظاهر أن قوله: ((وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) المراد به: إذا بدلناكم بغيركم.
لا في الدار الآخرة كما توهم، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى}.
أي أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] فـ (هَلْ) هنا بمعنى (قد)، أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً.
وقوله تعالى: ((فَلَوْلا تَذكَّرُونَ)) أي: فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة، قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة، وأنها هينة عليه تبارك وتعالى.