يقول الله تبارك وتعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:4 - 6].
{إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} أي: إذا زلزلت زلزالاً شديداً.
{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فتتت، أو سيقت وأذهبت وسيرت.
((فكانت هباءً منبثاً)) أي: متفرقاً.
والهباء: ما تذروه الريح من حطام الشجر، وقيل: هو ما يرى من الكُوَّة كهيئة الغبار، فإذا كان في الغرفة فتحة ينفذ منها ضوء الشمس فإنك ترى هذا الهباء في ضوء الشمس الداخل في الكوة.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((إِذَا رُجَّت)) بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] والرج: هو التحريك الشديد.
وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة ستحرك تحريكاً شديداً جاء في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]، وقال تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
أما قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} ففي معناه لأهل العلم أوجه متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً وكلها حق، وكلها يشهد له القرآن.
قال أكثر المفسرين: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فتتت تفتيتاً حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن.
ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقاً عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقاً ملتوتاً وهو البسيسة فقال: لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ولا تطيلا بمناخ حبسا فهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] يعني: رملاً متهايلاً.
ومنه قول امرئ القيس: ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل ومشابهة الدقيق المفتوت للرمل المتهايل واضحة، الدقيق المفتوت يشبه كثيب الرمل المتهايل، فقوله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] مطابق في المعنى لتفسير: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5]؛ لأن بسها هو تفتيتها وطحنها، وما دلت عليه هذه الآيات من أنها -أي: الجبال- تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد كلين الدقيق والرمل المتهايل، يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8 - 9] وأصل العهن أخص من مطلق الصوف؛ لأنه الصوف المصبوغ خاصة، ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم وقال بعضهم: الجبال منها جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا دكت وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا ذرته الريح في الهواء وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباءً منبثاً.
بالفاء على قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5 - 6] أي: متفرقاً؛ فوصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن.
الوجه الثاني: أن معنى قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: سيرت بين السماء والأرض وعلى هذا فالمراد ببسها سوقُها وتسييرها، من قول العرب: بسست الإبل أبسها، وأبسستها وأبسها لغتان، بمعنى: سُقْتُها.
ومنه حديث: (يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].
أما الوجه الثالث في تفسير قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} فهو أن المعنى: نزعت من أماكنها وقلعت، وهو راجع للوجه الأول، يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]، وقال تعالى هنا: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6]، وكقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20]، والهباء إذا انبث -أي: إذا تفرق واضمحل- صار لا شيء، كالسراب قال الله تعالى فيه: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].