قال تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:31 - 32].
قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، معناها: سنقصد لحسابكم، قال القرطبي: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً، وتفرغت لكذا، واستفرغت مجهودي في كذا، أي: بذلته، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه وإنما المعنى: فاحذر أن تتصور أن قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، كفراغ واحد من البشر، أن يقول مثلاً: أنا سوف أفضي نفسي وأخلص الذي في يدي وأتفرغ لك!! لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شيء عن شيء، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، أي: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذاً أتفرغ لك، يعني: أقصدك، وتقول للرجل الذي لا شغل له أصلاً وليس منشغلاً بشيء: قد فرغت لي، قد فرغت تشتمني، يعني: أخذت في هذا الأمر وأقبلت عليه.
وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على معنيين: أحدهما: الفراغ من الشغل.
والآخر: القصد للشيء والإقبال عليه، كما هنا في هذه الآية، فمعنى الفراغ: سنقصد لحسابكم، وليس معناها: سنفرغ من شغل معين ثم نتفرغ لكم.
وهو تهديد ووعيد، تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، فليس هذا على سبيل تمثيل تدبيره تعالى أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي والإماتة والإحياء والمنع والإعطاء، ليس فيه تمثيل بحال من كان في شغل يشغله عن شغل آخر، فإذا فرغ من ذلك الشغل شرع في الآخر، لكن المقصود هنا {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، أي: سنقصد لحسابكم.
وقيل: الفراغ: الخلاص عن المهام، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقد وقع مستعاراً للأخذ في الجزاء وحده، فمعنى: ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ)) سنحاسبكم أيها الثقلان.
والثقلان: تثنية ثَقَل بفتحتين، فعل بمعنى: مفعل، أي: مثقل؛ لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى: مفعول؛ لأنهما أُثقلا بالتكاليف، وقال الحسن: لثقلهما بالذنوب.
والخطاب في ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ)) قيل: للمجرمين من الثقلين، لكن يأباه قوله تعالى: ((أَيُّهَا الثَّقَلانِ))، فالمقصود بالتهديد هم، ولا مانع من تهديد جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم؛ لأن المقصود بـ (سنفرغ) سنقصد لحسابكم، فتشمل الفريقين، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضاً، فهي تشمل وعداً ووعيداً، حتى يقال: إنها وعيد فقط في حق المجرمين! بل هي في حق الجميع، أي: سنقصد المؤمنين بالوعد لحسابهم ومثوبتهم الإثابة الحسنة على الإيمان والعمل الصالح، ونقصد المجرمين لحسابهم بالعدل، بالعقوبة والجزاء وكفى، فهذه عامة وتشمل الأمرين معاً.
يقول: والخطاب في (لكم) قيل: للمجرمين، لكن يأباه قوله: ((أَيُّهَا الثَّقَلانِ))،المقصود بالتهديد هم ولا مانع من تهديد الجميع، ولا يفهم من هذا أن اللفظ الكريم وعيد بحت بل هو حامل للوعد أيضاً؛ لأن المعنى سنفرغ لحسابكم، وسنثيب أهل الطاعة ونعاتب العصاة، وهو جلي؛ ولذلك اعتد ذلك نعمة عليهم، فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: من ثوابه أهل طاعته وعقابه أهل معصيته.