ذهب بعض العلماء إلى أن التكرار هنا للتوكيد، وصحيح أن العرب يستعملون أحياناً التكرار من أجل إفادة التوكيد، تقول مثلاً: نعم نعم، هذا تكرار من أجل التوكيد.
لكن متى ما احتمل الكلام التوكيد وجب حمله على التأسيس لأن فيه معنى جديداً، فمثلاً قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1] فالصد له معنيان: الأول: أن الصد بمعنى الإعراض، كما تقول مثلاً: كلمته فصد عني، يعني: فأعرض عني، فالفعل هنا لازم غير متعد، له فاعل فقط وليس له مفعول.
الثاني: إذا كان الفعل متعدياً فيكون بمعنى الصد عن سبيل الله، كالكافر الذي يشنع على الإسلام أو ينفر الناس منه فهو يصد عن سبيل الله.
إذاً: فقوله تعالى مثلاً: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1] يحتمل أن يكون الصدود بمعنى الإعراض فيكون هنا تكرار؛ لأن كلمة (كفروا) هي بمعنى أعرضوا وكذبوا، فعلى هذا يكون هذا للتوكيد، وتأتي بمعنى كفروا في ذواتهم وصدوا غيرهم، فهم ضالون قد أضلوا أنفسهم وأضلوا غيرهم، هذا على أن الفعل متعد.
إذاً: مادام اللفظ محتملاً التأكيد ففي هذه الحالة يترجح حمله على التأسيس، وهذا له نظائر كثيرة منها هذه الآية التي تتكرر في سورة الرحمن {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فهي ليست للتوكيد وإنما هي للتأسيس، بمعنى: أنها كلما ذكرت فهي تشير إلى نوع معين من النعم التي ذكرت قبلها مباشرة، كما في قوله تعالى في سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يعني: الذين كذبوا بما سبق ذكره، فهي ليست للتوكيد وإنما هي لتأسيس معنى جديد.
فهنا لما عدد الله سبحانه وتعالى هذه الجملة من النعم جعل هذه الآية {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فاصلة بين كل نعمتين ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقولك للرجل: ألم أبوئك منزلاًَ وكنت طريداً؟ أفتنكر هذا؟! ألم أحج بك وأنت صرورة؟! أفتنكر هذا؟! كذلك هنا يذكر الله جملة من الآيات ثم يقول: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.