قال تبارك وتعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:10 - 11].
قوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وضع الأرض للأنام، والأنام هو الخلق؛ لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار، وحفر الآبار، وزرع الحبوب والثمار، ودفن الأموات، وغير ذلك من المنافع، من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم.
ولهذا قال الله تبارك وتعالى بعدها مباشرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، إشارة إلى أن خلق الأرض على هذه الصورة المهيأة والمسخرة لمصالحكم ومنافعكم من نعم الله سبحانه وتعالى العظمى عليكم.
ثم يقول: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم، واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:30 - 33]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:48]، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق:7 - 9]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29].
هذا كله إشارة إلى منة خلق الله سبحانه وتعالى لهذه الأرض، والإنسان يقع في تقصير شديد جداً، وهو مستقبح من كل إنسان، ولكنه أقبح من المسلم المؤمن، وهو أن الإنسان لا يستحضر نعماً إلا النعم الخاصة، وربما أيضاً أهمل نعمة هي أعظم نعمة على الإطلاق يمن الله بها على الإنسان وهي نعمة الإسلام، فينبغي للمؤمن بين وقت وآخر أن يذكر نعمة الإسلام، وأن الله هداه للإسلام وشرح له صدره، فهذه أعظم نعمة في الوجود.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غضب مرة على زوجته، فقال لها: (والله لأسوأنك! فقالت له: هل تملك أن تخرجني من الإسلام بعد أن أعزني الله به؟ قال: لا، قالت: فبم تسوءني إذاً؟) يعني: أي شيء أقل من زوال هذه النعمة فهو أمر هين، ما دمت لا تستطيع أن تنزع من قلبي نعمة الإسلام فلا يضرني شيء مهما فعلت بعد ذلك، إشارة إلى أن أعظم نعمة على الإنسان هي نعمة الهداية إلى الإسلام، فمعظم الناس لا يهتمون إلا بشكر النعم الخاصة: نعمة المال، الصحة، المنصب، الوجاهة، وهكذا؛ لأن النعم عندهم هي هذه، وهذا نظر خاطئ، وتراهم بالمقابل يهملون النعم العامة، مع أنهم يتمتعون بها في كل لحظة، مثل: نعمة الشمس، ونعمة الهواء، ونعم الله سبحانه لا تعد ولا تحصى كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ومجرد ذكر النعم وإمرارها على الفكر والقلب هذا في حد ذاته شكر لله عليها، واعتراف بنسبتها إلى المنعم بها وهو الله سبحانه وتعالى.