يقول تبارك وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29].
يعني: من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها لقَصْر نظرهم على المحسوسات؛ لأن هؤلاء الكفار لا يريدون الآخرة، وهم يعرضون عن ذكر الله، وما يريدون إلا الحياة الدنيا، ولا شك أن هذا واقع نلمسه في حياة الكفار أجمعين، إذ ليس لهم همٌّ إلا شهواتهم، وما يعمرون به هذه الحياة الدنيا.
وكان في هذه الآية وحدها أعظم ما يقنع هؤلاء الذين ينبهرون بالكفار والملاحدة من الشرق والغرب، ويغترون بما هم عليه، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]، فكيف ننقاد ونتْبع هؤلاء حذو القذة بالقذة ونحن أهل التوحيد، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعناهم؟! فحصل من الناس الآن افتتان شديد جداً بما عليه الكفار، في حين أن الكفار ليس عندهم إلا الدنيا بغدرها وبمفاسدها ونحو ذلك، فهذه الآية تكفي في نهي المسلمين عن الانسياق وراء الكفار ووراء مذاهبهم ومناهجهم، وكأنهم لم يسمعوا بقرآن ولا بسنة! وكأنهم لا يعتزون بدينهم وهويتهم الإسلامية! (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)، في هذا أمر لنا بالإعراض عنهم، ولكن كثيراً من الناس الآن يلهثون وراءهم لهثاً، ويركضون وراءهم ركضاً، تقليداً لهم واتباعاً لشأنهم وبحثاً عن كل ما يرضيهم ويستجلب استحسانهم.
ويفهم من ذلك أن كل من تولى عن ذكر الله عز وجل لا يُتخذ صاحباً، ولا يُتخذ أسوة ولا قدوة، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَاً} [الكهف:28]، وقال الله عز وجل أيضاً لموسى عليه السلام: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، أي: تهلك مع هذا الهالك، فهؤلاء لا يصلحون أسوة، ولا يصلحون قدوة، ولكن مَن تبعهم قادوه إلى النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها).
وفي هذه الآية غاية المذمة لمن جمع بين هذين الأمرين: لم يعش إلا للدنيا، وأعرض تماماً عن الآخرة، وأعرض أيضاً عن ذكر الله تبارك وتعالى.
وقد فهِم الزمخشري فهماً باطلاً من هذه الآية الكريمة؛ فزعم أن معنى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يعني: أعرض عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
والصحيح: أن المقصود من الإعراض هنا هجرهم هجراً جميلاً، وترْك إيذائهم، ولا تعني الآية بحال من الأحوال أمره بأن يكف عن دعوة هؤلاء المعرضين، لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه على الإطلاق، لا سيما والدعوة للمعرضين، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة، فالله سبحانه وتعالى الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هو الذي قال: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادَاً كَبِيرَاً} [الفرقان:52]، وهؤلاء نفس الكفار المعرضين، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد أعظم الاجتهاد في تبليغهم الدعوة ومحاجتهم ومناظرتهم وإقامة الحجة عليهم، ونحو ذلك.
فمعنى الآية: أعرض عن أذيتهم، واصفح عنهم، ودع أذاهم في مقابلة ما يجهلون عليك، مع الاستمرار في الدعوة، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.