قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12].
أي: أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه.
قال القاشاني: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى)، أي: أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره؟! فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟!.
ويقول: وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقةً.
انتهى كلامه.
ويقول القاسمي: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله بالوحي حالة خاصة بالأنبياء لا يمكن لغيرهم اكتناهها.
فكل من ليس بنبي من البشر فواجبه الإيمان بهذا الأمر والإذعان له؛ لقيام الدليل عليه، يعني: هذا خبر أتانا فنحن نصدقه ونؤمن به؛ لكن هل لا نصدقه إلا إذا رأينا جبريل ورأينا الملك؟
صلى الله عليه وسلم لا؛ لأن رؤية الملك ورؤية جبريل عليه السلام هي حالة خاصة بالأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما أنتم فلا تماروا في شيء، ولا سبيل لكم إلى رؤيته، وإنما المقصود منكم جميعاً أيها البشر! أن تؤمنوا بهذا الخبر؛ لأن هذا الخبر قصص القرآن، والقرآن ثبت بالمعجزات والأدلة أنه كلام الله لا ريب في ذلك.
فيقول: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها والإذعان لها، لقيام الدليل عليها، وبالجملة: فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئي؛ لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يره مرة واحدة وإنما رآه مرتين في صورته الحقيقية.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه، وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه.
يعني: يمكن للإنسان أن يرى شيئاً على خلاف ما هو عليه في الحقيقة، لسبب أو لآخر، وهذا معروف، وفي بعض الأمراض النفسية يكون من ضمن الأعراض أن يرى شيئاً على خلاف حقيقته، فنفي الله سبحانه وتعالى هنا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعارض قلبه مع عينه، وإنما توافَق القلب مع العين في إثبات رؤية الملك، فقلب الرسول عليه الصلاة والسلام صدق ما رأته عيناه.
يقول: وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك.
وفيها قراءتان: إحداهما بتخفيف: كَذَبَ والثانية بتشديدها يقال: كَذَبَتْه عينُه وكَذَبَه قلبُه وكَذَبَه جسدُه إذا أخلف ما ظنه وحدثه، قال الشاعر: كَذَبَتْك عينُك أن رأيت بواسط غلس الظلام من الرماد خيالاً أي: أرتك ما لا حقيقة له.
فنفى هذا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن فؤاده لم يكذِّب ما رآه.
و (ما) في قوله: ((مَا رَأَى)) إما أن تكون مصدرية؛ يعني: ما كذب الفؤاد رؤيته، وإما أن تكون موصولة، يعني: ما كذب الفؤاد الذي رآه بعينه، وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلب لرؤية البصر وتوافقهما، وتصديق كل منهما لصاحبه، وهذا ظاهر جداً في قراءة التشديد: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، ثم أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم مكابرتهم وجحدهم له على ما رآه، كما ينكر على الجاهل مكابرته للعالم ومماراته على ما علمه.
وقوله تعالى: ((أفتمارونه)) فيها قراءتان: ((أَفَتُمَارُونَهُ)) و ((أَفَتَمْرُونَهُ)) وهذه المماراة أصلها من الجحد والدفع، يقال: مريت الرجل حقه إذا جحدته، كما قال الشاعر: لإن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخاً ما كان يمريكا ومنه المماراة، وهي: المجادلة والمكابرة، ولهذا عُدِّي هذا الفعل بـ (على)، وهي على بابها وليست بمعنى: (عن) كما قاله المبرد؛ لأن المماراة هنا فيها معنى المجادلة والمكابرة.
ومن قرأ: ((أَفَتَمْرُونَهُ)) فمعناها: أفتجحدونه؟.