القوة

الوصف الثاني: أنه ذو قوة، كما قال في سورة النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].

وفي هذا تنبيه على أمور: أحدها: أن جبريل عليه السلام وصفه الله سبحانه وتعالى الجبار القوي المتين بأنه ذو قوة، وبأنه شديد القوى، فإذا وصفه الله بذلك فأي قوة تكون قوة جبريل عليه السلام؟! ووصف جبريل بأنه شديد القوى أو ذو قوة يفيد أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو من هذا القرآن الكريم، أو أن ينالوا منه شيئاً أو أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقرأ.

الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له وموادٌّ له وناصر، وإذا كان جبريل عليه السلام ذا قوة وشديد القوى فهو نصير، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فجبريل يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره ويؤيده ويعضده، ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه وناصره.

الأمر الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك.

الأمر الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أُمر به، فإذا كلف جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل فلأنه شديد القوى فهو قادر على أن ينفذ ما أُمر به لقوته، ولا يعجز عن ذلك، وهو مؤد له كما أمر به لأمانته، كما قال سبحانه: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21] وأحدنا إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، كما قالت ابنة الرجل الصالح: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فيمكن أن يوجد إنسان قوي على الوظيفة لكنه خائن غير أمين، ويمكن أن يوجد أمين تقي وورع؛ لكنه غير قوي، ولا يستطيع أن يؤدي هذه الوظيفة، وفقدان هاتين الصفتين هو الذي ألجأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشكوى في قوله: (أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة).

فقوله: (جَلَد الفاجر)، يعني: الشخص قد يكون فاجراً لكن عنده جَلَد وقوة بحيث يستطيع أن يجاهد ويُحدث انتكاساً في صفوف الأعداء، فهو فاجر، ولكنه مع ذلك قوي في الحرب مثلاً، وقوله: (وعَجْز الثقة)، يعني: الشخص قد يكون ثقة لكنه عاجز، فإذا وجدت القوة مع الأمانة فهذا هو أكمل الأمور، كما قال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].

يقول ابن القيم: وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً معظماً ذا مكانة عنده مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفة، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسَل إليه.

أي: أن هذا الاصطفاء وهذا الاختيار لجبريل عليه السلام وهو القوي الأمين شديد القوى المكين المطاع في أهل السماوات، كل هذه الصفات تدل على عظمة شأن المرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا كان هذا رسول الله سواء كان الرسول البشري أو الرسول الملكي فالله أعظم، فيدل على عظمة شأن المرسِل، وشأن الرسول، وهو جبريل، وشأن الرسالة نفسها لأنها هي القرآن الكريم، والمرسَل إليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم (حيث انتدب له الكريم القوي المتين عنده المطاع في الملإ الأعلى الأمين حقاً؛ فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية.

هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: ((ذِي قُوَّةٍ)).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015