قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، إشارة إلى قبح حالكم؛ لأنكم لا تفعلون هذا وأنتم جاهلون بهذا، لكن أنت تعلم في قرارة نفسك أن هذا المال ليس من حقك، فأنت تعلم ولست تجهل، فهذا فيه تقبيح وتوبيخ لحالهم، والمقصود إن خفي ظلمكم على الناس، فإنهم لا يعلمون ما في نفوسكم، فأنت تعلم أن هذا حرام عليك.
والناس الآن في أوضاع مؤلمة جداً،، الشيء الحرام عند بعض الناس هو الذي يعجز عنه، لكن ما قدر عليه يكون حلالاً، فالفيصل عنده ليس أن هذا الشيء حقي عند الله سبحانه وتعالى أم ليس حقي، لكن الفيصل عنده هل أقدر عليه أم لا أقدر؟ فإذا قدر عليه فهو حلال له، والحرام عنده هو الذي يعجز عنه، هذا حال كثير من الناس إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، وللأسف هذا في عامة ما حرم الله، تجد مثلاً الفروج الحرام منها عند بعض الفسقة ما عجز عنه، أما إذا قدر عليه فهو حلال عنده، وهذا بلا شك مصادمة لشرع الله تبارك وتعالى، وعدم خوف منه تبارك وتعالى.
هذه الآية المقصود بها أن الحاكم يحكم بما يظهر له، والقاضي بشر يتعامل مع الوثائق بما يظهره الناس من شهادات أو يمين أو غير ذلك، فيمكن أن تعلم أن هذا ليس من حقك، والقاضي حكم لك، فلا تعتقد أن هذا حلال لك، ما دمت تعرف أنه حرام فهو حرام، وحكم الحاكم لا يحله، والحاكم أو القاضي معذور؛ لأنه حكم بما يظهر له بحسب الوثائق، لكن إن كنت تعلم أنه عند الله سبحانه وتعالى ليس حلالاً لك فسيبقى حراماً، ولا يحله لك حكم الحاكم، ولذلك قال: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم، وهذا تنبيه على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه، وما علمتم منه، لا بما يظهر.
قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيأتي الآخر يريد حقه، فيجحد هذا المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آكل حرام، فإذا حكم له القاضي لا يحل له ذلك.
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له) أي: عنده قدرة على الكلام وتأويل الكلام كحال كثير من المحامين الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى، وظيفته محامي، ويعتقد أنه يحل له أن يدافع عن الظالم، يكون الرجل قاتلاً ويدافع عنه، ويحاول أن يبرئه، ويفخر المحامي الظالم بأنه أخرجه من القضية كما تخرج الشعرة من العجين، وقد يكون المجرم تاجر مخدرات يحارب المسلمين أشد من الحرب النووية، ومع ذلك يفخرون بأن المحامي هذا ماهر؛ لأنه تمكن أن يبرئه تماماً من القضية، وهذا بسبب لحن القول، وقدرته على تزيين الكلام وزخرفته وتمويهه لستر هذه الجريمة أو غيرها من الجرائم، فالقاضي يحكم بما يظهر له.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إنما أنا بشر مثلكم -يعني: لا أعلم الغيب- وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له -في بعض الروايات: فأقضي له بنحو مما أسمع-، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار) إذا كنت تعلم أن هذا ليس من حقك، ولكن لأنك فصيح والآخر عيي لا يستطيع الكلام غلبته بالكلام، فأنا أحكم على ما يظهر لمن يأتيني بالبينة، فقد يكون صاحب الحق ليس عنده بينة، وضع أمانته عند خائن، ففي هذه الحالة إذا حكمت بما يظهر فاعلم أن ما تأخذه إنما هو قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها حسب خوفه من الله.
فدلت الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير حقيقة الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما حكم القاضي يلزم قضاءً لا ديانة في الظاهر فقط، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره؛ لأنه اجتهد، وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى في آخر الآية: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم.
قال قتادة: اعلم -يا ابن آدم- أن قضاء القاضي لا يحل لك حراماً ولا يحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض.
يعني: القضاء حسم الخصومة في الدنيا فقط، ولكنها ستحسم يوم القيامة، فليس كل ما تقدر عليه بحكم قاضي أو بسلطة أو بغير ذلك يكون حلالاً لك، إنما الحلال ما أحله الله.
يقول: واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المنكر للحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.