يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك: أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر، والذي أنزل من السماء؛ لأنه يكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13] أي: ينزل لكم من السماء الماء الذي يكون بسببه نماء الرزق.
وقال تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} [الجاثية:5] أي: من مطر.
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق.
وقال بعض أهل العلم: معنى قوله تعالى: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)) أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة، والله جل وعلا يدبر أمر الأرض من السماء، فهو سبحانه يدبر أمركم ويكتب أرزاقكم وأجلكم في السماء، كما قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5].
والمراد بقوله: ((وما توعدون)) كما قال بعض أهل العلم: الجنة؛ لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح؛ لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك، فسقف المسجد، وسقف البيت يسمى سماء، وشاهد ذلك من القرآن قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] أي: من كان يظن أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر نبيه محمداً عليه السلام ويجعل له العاقبة، فليربط الحبل إلى سقف الحجرة، ثم يفصل نفسه عن الأرض بالوقوف على الكرسي والحبل في عنقه، وبالتالي يشنق نفسه بهذه الطريقة.
فالشاهد هنا: أن ((فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ)) يعني: أن كل ما علاك يطلق عليه سماء؛ ولذلك قال الشاعر: وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور، قال فيه: (بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال له صلى الله عليه وسلم: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: أجل إن شاء الله).
وقال بعض أهل العلم: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) أي: ما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب للمعنى الثاني في الرزق، وهو أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة والله عز وجل يدبر أمر الأرض من السماء.
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع، ومن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، فقال: أنا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة فمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً فلما كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه رأياً، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت.
وعن الأصمعي قال أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع.
قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن.
قال: اتل علي.
قال: فقرأت عليه من أول سورة الذاريات حتى بلغت قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال الأعرابي: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد فصرت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رفيع، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي وقال: اتل علي سورة الذاريات، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}، فصاح وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين، قال ذلك ثلاث مرات، وخرجت معها نفسه.
فهذه النقول وهذه القصص تدل على أنهم فهموا من قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أن الأرزاق يكتبها الله سبحانه وتعالى ويقدرها، وكذلك ما توعدون من خير أو شر إنما هو أمر مقدر في السماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت).