قوله: ((وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)) المقصود أنكم تترافعون إلى الحكام، وتدعون دعاوى كاذبة في حق بعضكم حتى تأكلوا الأموال بالباطل.
وقوله: (وتدلوا) مجزوم عطفاً على النهي، يعني: ولا تدلوا، وفي قراءة أبي (ولا تدلوا) بإثبات لا الناهية، والإدلاء مأخوذ من الدلو، وهو إرسال الدلو في البئر للاستقاء، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل يتوصل به إلى شيء، فكل من ألقى شيئاً ليتوصل به إلى شيء يقال: قد أدلى، ومنه يقال للمحتج الذي يحتج ويقيم الحجة: أدلى فلان بحجته، كأنه يرسل الحجة حتى يصل إلى مراده، كإدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم إذا كان منتسباً إليه؛ فيطلب الميراث بتلك النسبة، يدلي إليه بقرابة، فكأنه اتخذ من هذه القرابة سبباً يوصله إلى حقه من الميراث.
والباء في قوله: (وتدلوا بها) صلة الإدلاء، والمعنى: لا تلقوا أمرها والحكومة بها إلى الحكام، أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش -وهو الواسطة الذي يمشي بينهما-) رواه أهل السنن، وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت -وهي: الرشوة، وتسمى أحياناً بالهدية، والإكرامية، والقهوة- احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان.
وولي الأمر إنما جعل ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية، وإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين، فالحاكم أو القاضي إنما جعل ليقيم العدل بين الناس، وليحمي الناس من ظلم بعضهم لبعض، فإن كان ظالماً فقد أتى بضد المقصود من ولايته، فيكون مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك.
((وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)) (بها) الهاء تعود إلى الحكومة، وكلمة حكومة معناها في مثل هذا السياق وفي كلام السلف ليس المعنى السياسي الذي يتبادر الآن إلى أذهاننا، بل المعنى رفع الدعوة إلى القاضي، هذه تسمى حكومة.
((وَتُدْلُوا بِهَا)) يعني: بهذه الحكومة والدعوة، وترفعونها إلى القضاء.
((إِلَى الْحُكَّامِ)) جمع حاكم، وهو منفذ الحكم بين الناس.