قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
لما ذكر استبعادهم للبعث أزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، وأعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي فقال سبحانه وتعالى: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)).
وهذا إخبار بأن هذا سوف يحصل لكل إنسان بعد ما أقام الله عز وجل الحجة والأدلة فيما مضى من الآيات على أحقيه البعث والنشور والحساب والجزاء، وأعلمهم بأنهم ملاقون ذلك عما قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي؛ لأن القرآن الكريم يعبر عن المستقبل بصيغة الماضي أحياناً للدلالة على تحقق وقوعه، فكأنه حصل بالفعل، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] المقصود: سوف يقول الله لعيسى وسكرة الموت: شدته المحيرة الشاغلة للحواس، المذهلة للعقل، كما قال تبارك وتعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فالسكر قد يكون بالخمر، وقد يكون بسبب الشدة التي يقع فيها الإنسان بحيث تحيره وتشغل حواسه وتذهل عقله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)! ((بالحق)) يعني: جاءت سكرة الموت بالموعود الحق، والأمر الحق، وهو الموت، فالباء هنا للملابسة، يعني: جاءت سكرة الموت متلبساً بالحق الذي هو الموت.
أو للتعدية، يعني: وجاءت سكرة الموت بالموعود الحق من أمر الآخرة والثواب والعقاب الذي غفل عنه، والمعنى: أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر، وهي أحواله الباطنة، وأظهرتها عليه.
قال الشهاب: استعيرت السكرة للشدة، ووجه الشبه بينهما أن كلاً منهما مذهب للعقل، فكما أن الخمر تذهب العقل كذلك الشدة أحياناً تذهب عقل الإنسان، ويجوز أن يشبه الموت بالشراب كما قال الشاعر: الموت كأس وكل الناس شاربه وقوله: ((ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)) أي: تنفر وتهرب، والجملة على تقدير القول، يعني: وجاءت سكرة الموت بالحق فيقال للميت أو المحتضر: ((ذلك ما كنت منه تحيد)) وهذا أمر معروف في القرآن الكريم، فكثيراً ما يحذف لفظ القول ويدل عليه السياق فيكتفى بذلك، والمعنى: أنه يقال له في وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار.
والإشارة في قوله: ((ذلك ما كنت منه تحيد)) قال بعض العلماء: إنها إشارة إلى الحق وهو الموت.
أي: ذلك هذا هو الموت الذي كنت تفر وتهرب منه، ويؤيده قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] هذا كله يرجح القول بأن الإشارة بقوله: (ذلك) إلى الحق.