هذه الآية والتي بعدها تثبت وجود هذين الملكين اللذين يسجلان أعمال الإنسان، إلا أنه من المؤسف جداً كثرة النقول في تفسير القاسمي عن القاشاني فيما يسمى بالتفسير الإشاري الذي هو مليء بالتأويلات البعيدة المخالفة لمنهج السلف، والإنسان من شدة تعجبه يشك ويقول: هل دس أحد في تفسير القاسمي هذه الأشياء التي يكثر فيها النقل المخالف للمنهج السلفي؟ ففي الأجزاء الأخيرة من تفسير القاسمي نلاحظ كثرة النقل عن القاشاني أمثال هذه التأويلات التي تستفز كل معتز بمنهج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية.
فقد نقل عن القاشاني كلاماً غريباً وهو قوله: والمتلقي القاعد عن اليمين هو القوة العاقلة العملية المتمثلة بصور الأعمال الخيرية، والمتلقي عن الشمال القوة المتخيلة التي تتمثل بصور الأعمال البشرية والبهيمية والسبعية إلى آخر هذا الكلام العجيب! ففيه تأويل الملك بأنه القوة الحاثة على الخير، والشيطان بالقوة الحاثة على الشر، ثم بين القاسمي أن الغزالي سبقه إلى هذا المعنى، وعبر عنه بالسبب، وقال: إنه يسمى ملكاً، فيقول الغزالي في الإحياء في شرح عجائب القلوب: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً، إلى آخره.
وهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار! حيث استدل بكلام الغزالي، ونحن نعلم كيف كثر اضطرابه، والغزالي مصدر غير مأمون في تلقي أمور العقيدة على الإطلاق، وهو رحمه الله وإن كان قد وفق في الإخلاص والصدق؛ لكن لم يكن له حظ وافر من الصفة الأخرى المهمة وهي الصواب، فالإخلاص لا شأن لنا به، وعلامات الإخلاص والصدق لا شك أنها بادية في سيرة الغزالي رحمه الله تعالى، لكن هل أصاب؟ قال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: أخلصه وأصوبه، فالإخلاص شرط، لكن بقي شرط آخر وهو المتابعة وموافقة المنهج الصحيح، فـ الغزالي أضاع معظم عمره في التجول باحثاً عن الحق بين الإسماعيلية والباطنية والفلاسفة والصوفية وكذا وكذا، وقد كان الحق أقرب إليه من حبل الوريد، عند أهل الحديث، فـ الغزالي مصدر غير مأمون للتعلم والتلقي؛ لأن الغزالي صاحب مدرسة منحرفة مخالفة تماماً لمنهج السلف.
وهذا كلام قد يصدم بعض الناس، لكن هي نصيحة لا بد منها، فحينما نأخذ كتب الغزالي نشعر أننا نمشي على أرض مزروعة بالأشواك، فلا بد من الحذر الشديد، كيف وقد شحن كتابه المسمى بالإحياء بالكذب على رسول الله عليه السلام، ونقول كما قال ابن الجوزي: لا نقول إنه افتراها لكنه ارتضاها! يعني: هو ما وضع هذه الأحاديث الموضوعة، لكنه قرأها وأثبتها في كتابه دون تمحيص، ودون تحر وتحقيق، فالكتاب من أكثر الكتب المشحونة بالأحاديث الموضوعة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فما قيمة الاستدلال بكلام الغزالي، وأنه يقول: إن الخاطرة والفكرة التي تدعونا إلى الخير تسمى ملكاً، والفكرة التي تدعونا إلى الشر تسمى شيطاناً؟! هذا مصادم تماماً لنصوص الوحيين في حقيقة الملكين اللذين يكتبان أعمال الإنسان، وحقيقة الشيطان.
العجيب أنه في نهاية كلام القاشاني وكلام الغزالي رحمه الله تعالى نجد القاسمي يعلق قائلاً: والبحث كله غرر تنبغي مراجعته! فهذا نفس غريب جداً بالنسبة لتفسير القاسمي، والقاسمي إمام سلفي محقق، فلا ندري ما مصدر أو ما سبب الميل في هذه الأجزاء الأخيرة لحكاية هذه التأويلات بدون إبطالها، فالاعتقاد الصحيح أن المتلقيين عن اليمين وعن الشمال ملكان حقيقيان، وليسا عبارة عن القوة الخيرية التي تحثنا على الخير أو تؤزنا إلى الشر.