وهذه الآية يستدل بها في مسألة مهمة متعلقة بقضايا الإيمان، وهي: أن المعاصي لا تذهب الإيمان ولا تستأصله وإنما تنقصه.
فلا نقول كالمرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وإنما نقول: الذنب يضر.
وكذلك لا نقول كما قالت الخوارج في الطرف الآخر: إن المعصية كفر وخروج من الملة.
لكننا أهل السنة وسط بين الإفراط والتفريط في هذه المسألة وغيرها من المسائل، فالسنة بين الغلو والجفاء، فإذا قال الخوارج: إن المعصية تخرج من الملة.
ويكفر صاحبها، وقال المرجئة في الطرف الآخر: إن المعصية لا تضر على الإطلاق بناءً على أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فأهل السنة يقولون: كلا، لا هذا ولا ذاك، وأهل السنة مع الحق الموجود في كل من الطائفتين، وفي نفس الوقت بريئون من ضلالهما، فنحن نقول: إن المعصية تضر، لكن ضررها لا يذهب بأصل الإيمان، ولا يقتلع شجرة الإيمان، وإنما تنقص كمال الإيمان.
فهذه الآية مما يستدل به على أن الكفر كفران: كفر أكبر، وكفر أصغر، فالكفر الأكبر: هو الذي يخرج صاحبه من الملة، وأما الكفر الأصغر فهو الكفر العملي الذي ينقص الإيمان.
وقد ورد وصف قتال المؤمن بالكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد ورد ما يدل على أن القتل ليس خروجاً من الملة إلا بالاستحلال، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] فالمخاطبون بهذه الآية موصوفون بالإيمان، مع أن فيهم من قتل أخاً له؛ لأن القصاص يكون في القتلى.
ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فأثبت له أخوة الإيمان مع وقوع القتل، فدل على أنه لم يكفر بالقتل، ولم يخرج به من الملة، وإنما يستحق بذلك الوعيد والعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) يعني: هذا هو الوعيد، ومعلوم أن الوعيد لا يتحقق إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع.
هنا أيضاً قال تبارك وتعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) فوصفهم بالإيمان وأمر بالإصلاح بينهما، وقال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] فأثبت أخوة الإسلام مع وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل بالكفر، فهذا كله مما يدل على أنه كفر دون كفر، وكل معصية من شعب الكفر يطلق عليها كفر، وكل طاعة من شعب الإيمان يطلق عليها إيمان كما سبق أن بينا ذلك بالتفصيل.