وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض أي: ينادوه باسمه: يا محمد! يا أحمد! كما ينادي بعضهم بعضاً، وإنما أمروا أن يخاطبوه خطاباً يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن يقولوا: يا نبي الله! أو يا رسول الله! ونحو ذلك.
((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) أي: لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم.
((وأنتم لا تشعرون)) أي: لا تعلمون بذلك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واحترامه جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]، هذا على القول بأن الضمير في (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف:157].
وقوله هنا: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))، أي: لا تنادوه باسمه يعني: لا تقولوا له: يا محمد! وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله سبحانه وتعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وهذه من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تدل على تفضيله على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى كان يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير، ولا توجد آية في القرآن فيها: يا محمد أو يا أحمد، وإنما: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ} [البقرة:35]، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104]، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48]، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55]، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص:26].
أما محمد صلى الله عليه وسلم فلا ينادى بالاسم لكن جاء اسمه في قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144].
وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2].
وقال أيضاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29].
وقد بين تبارك وتعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى أي: أخلصها لها، وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3].
وقال بعض العلماء في قوله: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))، أي: لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض.
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر، وقد قال القرطبي: إنه ليحبط عمله بغير شعوره.
لأن قوله: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) يدل على أنه يمكن أن يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر.
وقال ابن كثير: قوله عز وجل: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك؛ فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري.
ومعلوم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط، وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً لا يجوز، ولا يليق إقرارهم على ما هم عليه من المنكر، وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.