قال تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر ليفتحوها -لأن فتح خيبر كان بعد صلح الحديبية مباشرة- أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها): فهذه المرة لأنها مغانم، وسوف ينالون حظاً من الدنيا؛ كانوا حريصين على الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أنهم رغبوا بأنفسهم عنه وعن أصحابه حينما كانت هناك معركة فيها إزهاق للنفس، وحين ظنوا بالله ظن السوء أن الرسول عليه السلام والصحابة لن يعودوا أبداً، بل ستستأصلهم قريش والأحابيش.
فقوله: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) أي: إذا انطلقتم إلى أماكن المغانم، وهي خيبر، ومثاله في سورة النساء قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] جاء في تفسيرها: (لا تقربوا الصلاة) يعني: المساجد، والمراد: لا تقربوا أماكن الصلاة التي هي المساجد، والدليل من الآية: (إلا عابري سبيل) وهذا لا يمكن أن يكون داخل الصلاة، وإنما عابر السبيل يعبر المكان الذي هو المسجد، فكذلك هنا: (إذا انطلقتم إلى مغانم) إلى أماكن المغانم.
يقول ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر يفتحونها، أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم، فإن الله تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لأن الله سبحانه وتعالى كافأ الصحابة في غزوة الحديبية بمغانم خيبر يحوزونها وحدهم؛ لصمودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ما وعد الله سبحانه وتعالى شرعاً وقدراً، ولهذا قال: ((يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ))، هل كلام الله يبدل؟ لا يمكن أن يبدل كلام الله الشرعي والقدري، ومغانم خيبر كتب الله عز وجل في القدر السابق أنها من حق الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلا يقع غير ما قدر الله كوناً ولا قدراً.
وبعض المفسرين قال: المقصود بقوله تبارك وتعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أنه قوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83]، فيفسرون هذه بتلك، يعني: يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي قاله في هذه الآية، ولكن هذا فيه نظر؛ فإن سورة الفتح نزلت في غزوة الحديبية سنة 6 من الهجرة، وغزة تبوك كانت في سنة 9 في شهر رجب، فكيف تفسر هذه الآية بآية التوبة! يقول القرطبي: قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) يعني: مغانم خيبر؛ لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية بفتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر، ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: إن أهل الحديبية هم الذين يستحقون غنائم خيبر ولا يشركهم فيها أحد، حتى لو كان هناك رجل من أهل الحديبية لم يحضر فتح خيبر فإنه يضرب له سهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
(سيقول المخلفون) اللام هنا عهدية يعني: المخلفين الذين تعهدونهم، وسياق الكلام فيهم (إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا) أي: دعونا نتبعكم فنقاتل معكم، (يريدون أن يبدلوا كلام الله) يعني: بعدما ظهر كذبهم في الاعتذار وطلب الاستغفار (يريدون أن يبدلوا كلام الله)، قال القرطبي: يعني: يغيروا.
وقوله في هذه الآية: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) المقصود أنها ظرف لما قبلها أي: أنهم سيقولون وقت خروجهم: إذا انطلقتم إلى مواطن الغنائم.
يقول الألوسي: والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين، ولم نقف على خلاف في ذلك، وأزيد بأن السين تدل على القرب.
يعني: لا يعرف خلاف في تفسير المغانم هنا بأنها مغانم خيبر، ومما يؤيد هذا المذهب التعبير بالسين: (سيقول المخلفون) فالسين تدل على القرب، وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية، فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم عن مغانم مكة خيبر، إذا أطاعوا النبي عليه الصلاة والسلام ورجعوا موادعين، ففي هذه الحالة سيعوضهم الله سبحانه وتعالى مغانم خيبر، وخص سبحانه ذلك بهم.
فمعنى الآية: سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها، طمعاً في عرض الدنيا، وبما أنهم يرون ضعف العدو هذه المرة، فاليهود في حالة ضعف في خيبر، ويتحققون النصرة لأن المسلمين أقوياء، قالوا: (ذرونا نتبعكم) أي: إلى خيبر، ونشهد معكم قتال أهلها، يريدون أن يبدلوا كلام الله بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية، ويريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى.
(قل لن تتبعونا) قال القاسمي: أي: إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم، فهذا نفي في معنى النهي، (قل لن تتبعونا) أي: لا تتبعونا، قال الشهاب: فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي وهو أبلغ.
وقال الألوسي: (قل) إقناطاً لهم يعني: تيئيساً لهم، (لن تتبعونا) أي: لا تتبعونا، فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة، والمراد نهيهم عن الاتباع فيما أرادوا الاتباع فيه في قولهم: (ذرونا نتبعكم) وهو الانطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة.
من هو هذا الملقب بمحيي السنة؟ الذي اختص بهذا اللقب هو الإمام البغوي، فالإمام البغوي هو محيي السنة رحمه الله تعالى.
وقيل: المراد (قل لن تتبعونا) يعني: لا تتبعونا ما دمتم مرضى القلوب، (كذلكم قال الله من قبل) قال ابن جرير أي: من قبل مرجعنا إليكم إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، كذلك حكم الله من قبل أن نعود من الحديبية إلى المدينة، وقبل أن نقابلكم وتعتذروا؛ قد حكم الله سبحانه وتعالى وقال: إن غنيمة خيبر فقط لمن شهد الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر؛ لأن غنيمتها لغيركم.
وقال ابن كثير في تفسير قوله: (كذلكم قال الله من قبل) أي: وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم.
(فسيقولون بل تحسدوننا) قال القاسمي: أي: أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنماً إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم، قال الشهاب: وهو إضراب عن كون الحكم لله، يعني: إضراب عن قول المسلمين لهم: ((كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ))، فكأنهم يقولون: ربنا لم يقل هذا، لكن هذا ناتج من أنكم تحسدوننا، وتريدون أن تستأثروا بالغنائم، فالإضراب هنا عن كون هذا حكم الله، أي: فإنما ذلك من عند أنفسكم حسداً (فسيقولون بل تحسدوننا)
و صلى الله عليه وسلم بل كانوا لا يفقهون عن الله تعالى ما لهم وعليهم من أمر الدين، (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: إلا فهماً قليلاً وهو ما كان في أمور الدنيا، كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، والعلم في الحياة الدنيا دون الآخرة ليس بعلم في الحقيقة؛ لأن الآية في سورة الروم تقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] فأبدل من قوله: (لا يعلمون) قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]؛ لأن هذا الظاهر لما كان لا يفيدهم في الإيمان واليقين شيئاً فكأنه لا علم لهم، ولا يساوي هذا العلم شيئاً، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة).
(بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: بأمور الدنيا، كما فسرها قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وقال ابن كثير: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) أي: أن نشرككم في المغانم، (بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ليس الأمر كما زعموا ولكن لا سهم لهم.
فقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) رد لقولهم الباطل في المؤمنين، فهذا دفاع عن المؤمنين باتهامهم إياهم أنهم يمنعونهم من أجل الحسد، ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم، وهو الجهل المفرط، وسوء الفهم في أمور الدين، وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى، وإثباتهم الحسد لأولئك السادة بسبب الجهل وقلة التفكر، وهذا أقوى دليل على أنهم لا يفقهون، ولو كانوا يفقهون شيئاً نافعاً لفهموا أن الجزاء من جنس العمل، وأن حالهم بعكس حال الصحابة، الصحابة كانوا كما وصفوا يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع،