هذه الآية الكريمة فيها فن معروف عند علماء البيان يسمى: اللف والنشر، واللف والنشر هو: أن يذكر أشياء إما تفصيلاً: بالنص على كل واحد، أو إجمالاً: بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد منها يرجع إلى واحد من المتقدم، ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به؛ لأنه يكمل اللف.
اللف والنشر الإجمالي مثاله: قول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران، وهل معنى ذلك أن أهل الكتاب اتفقوا مع بعض وتوحدوا وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً؟ لا، لم يتفقوا والدليل على ذلك الآية التي يقول الله تعالى فيها: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، ونحن نقول لهم: كلاكما محق، يعني: فهؤلاء صادقون وهؤلاء صادقون، اليهود عندما قالوا: (ليست النصارى على شيء) نقول لهم: أنتم صادقون ونطقتم بالحق، فليست النصارى على شيء، والنصارى لما قالوا: (ليست اليهود على شيء) نقول لهم: صدقتم، فليست اليهود أيضاً على شيء، وكلاكما ليس على شيء.
فهم رأيهم في بعضهم البعض صواب، فقوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) فهنا إجمال في اللف في قوله: (وقالوا) والإجمال في حرف الواو، من الذي قال؟ كل فئة، (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) لكن حينما نريد أن نذكر ما لفته الواو ونفرد الكلام ونفصله فنقول: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى، وإنما سوغ الإجمال في اللف ظهور العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقر أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة، والدليل الآية التي بعدها، وهي قوله سبحانه وتعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) وكما قلنا: كلاهما في قوله هذا محق.
إذاً: الإجمال هنا في الواو جائز وسائغ؛ لأن اللف مأمون، فالإنسان العاقل الذي يعي الكلام عندما يقرأ القرآن الكريم يفهم أن قوله: (وقالوا) مجمل، ويستطيع أن يرد كل قول إلى فريقه، فلا يتصور أن احداً يقرأ الآيات، ويظن أن اليهود والنصارى اتفقوا على هذا القول، لا؛ لأن اليهود قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، فهذا أنموذج من نماذج الإجمال في اللف.
وقد يكون الإجمال في النشر لا في اللف، كأن يؤتى بمتعدد ثم بلفظ يشتمل على متعدد يصلح لهما، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] فهذا نشر، ثم أتى اللف في قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وهذا على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به: الفجر الكاذب لا الليل، أي: حتى يتبين لكم الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فالفجر الكاذب هو الخيط الأسود، فتكون (من) فيها لف في كلمة: (من الفجر)، وقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) يعني: الفجر الصادق من الفجر الكاذب، يعني: كلاهما فجر، هذا ما يتعلق بالإجمال.
أما في حالة التفصيل فهو قسمان: أحدهما: أن يكون على ترتيب اللف كقوله سبحانه وتعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] أي: جعل لكم الليل، ثم النهار، ثم قال: (لتسكنوا فيه) وقال: (ولتبتغوا من فضله) فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار، فهنا الإجمال أتى على (جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله).
وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، فاللوم راجع إلى البخل: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) والإحسار راجع إلى الإفراط، ومعنى (محسوراً) أي: منقطعاً لا شيء عندك.
كذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11].
فقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر) راجع إلى قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى).
وقوله: (وأما السائل فلا تنهر) راجع إلى قوله: (ووجدك ضالاً فهدى).
ولعله بادر إلى عقولكم أن السائل المقصود به: الذي يسأل المال، لكن المراد به هنا السائل عن العلم؛ لأنه يقابل قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى) ضالاً معناه: غافلاً عما أوحاه الله إليك من الهدى والفرقان، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فإذاً: (ضالاً) يعني: عما أوحى إليك من النور والفرقان والشرائع، وعلى هذا فقوله: (وأما السائل فلا تنهر) قال مجاهد: يعني: السائل عن العلم، فإن للسائل حقاً، والسائل قد يدخل فيه أهل الكتاب الذين يأتون ليجادلوه عليه السلام ويسألوه أو الأعراب، أو كما جاء في سورة: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] في قصة الأعمى.
إذاً: قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى) يرجع إليها قوله: (فأما اليتيم فلا تقهر)، فكما آواك الله فعامل اليتيم بالمثل.
(وأما السائل فلا تنهر) كما أن الله امتن عليك بهذا العلم وهذا النور وهذا الوحي؛ فلا تنهر من أتاك يسألك هذا العلم.
(وأما بنعمة ربك فحدث) هذا راجع إلى قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى).
وقد يكون اللف والنشر التفصيلي على عكس التدقيق الذي ذكرناه هنا مع موافقة التركيب: (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) وكذلك في سورة الضحى، أما عكس الترتيب فكقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:106]، ثم قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:107] فقوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أتي بعدها بعكس الترتيب لأنه بدأ بعكس الترتيب في الجزء الأول فقال: (فأما الذين اسودت) ثم قال: (وأما الذين ابيضت وجوههم).
وجعل منه جماعة من العلماء قول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فبعض العلماء جعلوا هذا من اللف والنشر التفصيلي مع عكس الترتيب، (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فيكون (متى نصر الله) قول الذين آمنوا، و (ألا إن نصر الله قريب) قول الرسول، فيكون التقدير: حتى يقول الذين آمنوا معه: متى نصر الله، ويقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فهذا يكون على عكس الترتيب.
على أي الأحوال المقصود من هذه الآية الكريمة: ((قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا)) أي: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً؟ ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً؟ ففي هذه الآية الكريمة أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة: (فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً) أي: لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم، ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به، فلا نافع إلا هو، ولا ضار إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده، ولا منع نفع أراده، وهذا وضحه قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17]، وقال في آخر يونس: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107].