قوله: (فأتيت أبا بكر): لم يذكر عمر أنه راجع أحداً في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وذلك لجلالة قدره، وسعة علمه عنده، ومثل هذه المواقف تثبت فعلاً أن أبا بكر هو الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتجد في سيرة أبي بكر العقل والثبات مع ما لـ عمر رضي الله عنه من الفضائل، لكن عمر بعد أبي بكر في الترتيب.
ومن ذلك أيضاً موقف عمر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين تقارن بين موقف أبي بكر وموقف عمر رضي الله تعالى عنهما، وموقفهما عند قتال أهل الردة؛ هذه المواقف بلا شك تبين فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على عمر.
وجواب أبي بكر لـ عمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء، دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى.
ومواقف أبي بكر في هذا كثيرة جداً منها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبيل وفاته صعد المنبر وقال: (إن عبداً قد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فبكى أبو بكر في الحال، فتعجب الصحابة لبكائه! فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (هناك عبد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله) فلماذا يبكي أبو بكر؟!
صلى الله عليه وسلم لأن أبا بكر كان أفهم الصحابة وأعلمهم، وأحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكملهم، ففهم أبو بكر من ذلك أن هذا العبد هو الرسول عليه السلام، وأنه على وشك أن يفارقهم، وأن الرسول كان ينعي نفسه إلى الصحابة رضي عنهم، لكن لم يفقه هذا إلا أبو بكر؛ لأنه أعرف الناس بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى.
والمسلمون استنكروا الصلح المذكور، وقاموا على رأي عمر في ذلك، وسيأتي في حادثة الحلق وفي بقية القصة أن عامة المسلمين كانوا على موقف عمر فقد كانوا مبهوتين ومذهولين من هذا الموقف، واختص أبو بكر رضي الله تعالى عنه بهذا الموقف الثابت الحكيم الرائع، واستنكر المسلمون الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك.
وظهر من هذا الفصل أن الصديق رضي الله عنه لم يكن في ذلك موافقاً له بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواءً، والدليل في هذا التطابق في العبارات، والردود التي وجهها النبي عليه السلام لـ عمر حين راجعه هي نفسها سواءً بسواء الردود التي ذكرها أبو بكر معه ويعني أبو بكر لم يكن حاضراً ذلك، وهذا يذكرنا بحادثة ابن الدغنة الذي وصف أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بنظير ما وصفت به خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تمام الموافقة من علامة المحبة، فالمحبة هي التوافق في كل شيء، فتجد المتحابين بينهما التوافق الغريب والعجيب، فـ خديجة لما وصفت الرسول عليه السلام قالت: (والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) وكذلك ابن الدغنة لما أراد أبو بكر أن يخرج من مكة أبى ذلك وقال له: إنك يا أبا بكر لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل إلى آخره، نفس العبارات التي قالتها خديجة رضي الله تعالى عنها، فاتفقت الصفات المتناسبة تماماً، وهكذا شأن المحبين التوافق في الصفات! يقول: (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق) والغرز للإبل بمنزلة الركب للفرس، والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركب الفارس لا يفارقه.
قال عمر (أليس كان يحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به).
قال الزهري: قال عمر: (فعملت لذلك أعمالاً) يعني: من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب، وفي قول في تفسير (فعملت لذلك أعمالاً): أنه كان في حالة اضطراب شديد بسبب مراجعته في هذا الموقف، ولم يكن ذلك شكاً من عمر، بل حثاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الدين.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعدما حكى هذا القول عن بعض القراء: وتفسير الأعمال بما ذكر مردود -يعني التفسير بالذهاب والمجيء والسؤال والجواب إلى آخره- يقول: بل المراد به: الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداءً.
وقد ورد عن عمر التصريح بمراده بقوله: (أعمالاً)، ففي رواية ابن إسحاق: وكان عمر يقول: (ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ) يعني امتثالاً لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: (لقد أعتقت بسبب ذلك رقاباً وصمت دهراً).
إذاً: المقصود من قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فعملت لذلك أعمالاً) لا يمكن أن يكون المراد بالأعمال أنه استمر يذهب ويجيء ويسأل ويحاور على سبيل الشك، وإنما على سبيل طلب الحكمة في هذا الأمر، ورفع الالتباس، وهذا القول مردود بدليل أن عمر صرح بمراده بهذه الأعمال، وهو أيضاً لم يذهب ولم يراجع إلا أبا بكر بعد الرسول عليه السلام؛ لأنه يعلم أن أبا أبكر أعقل الناس وأعلمهم وأفقههم، ولم يرجع بعد ذلك إلى أن يسأل أيضاً، فلم يتردد على أحدٍ من الصحابة بعد أبي بكر، والله تعالى أعلم.
والراجح أن نقاش عمر رضي الله تعالى عنه لا يمكن أن يكون شكاً في النبوة؛ لأن رواية ابن إسحاق فيها: أن أبا بكر لما قال له: (الزم غرزه، فإنه رسول الله) قال عمر: (وأنا أشهد أنه رسول الله)، وأيضاً الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إني رسول الله ولست أعصيه)، إيماءً إلى أن هذا الفعل إنما فعله عن وحي يوحى.
يقول الحافظ: والذي يظهر أنه توقف ليقف على الحكمة في القصة، وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره في قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاده الحكم، بخلاف الثانية، فلعل عمر طمع في أن يوافقه الوحي كما وافقه في أكثر من مناسبة، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه، بل هو مأجور؛ لأنه رضي الله عنه مجتهد فيه.