انتهينا في شرح هذا الحديث عند قول عروة لما رجع إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك إلى قوله: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته.
قوله: (فقال رجل من بني كنانة) وفي رواية: فقام الحليف، وقيل: إنه من رءوس الأحابيش، وقال: أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، فقام رجل من بني كنانة فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن - يعني: الجمال- فابعثوها له) يعني: أثيروها دفعة واحدة.
وزاد ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: سلك هذه الطريقة ليبين لهذا المبعوث أنهم ما أتوا لقتال وإنما أتوا معتمرين، وآية ذلك أن الرسول عليه السلام أمرهم أن يدفعوا البدن دفعة واحدة حتى يراها، ثم إن البدن كانت مقلدة ومشعرة، وهذا يؤكد أنهم ما أتوا لقتال؛ فلذلك لم يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقترب منه حتى عاد إليهم ليحذرهم.
وفي مغازي عروة عند الحاكم: فقام الحليف -يعني: لما رأى الجمال بهذه الهيئة- فقال: هلكت قريش ورب الكعبة، إن القوم إنما أتوا عماراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك)، وهذا لا يتعارض مع قوله: ولم يصل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: لعله يحتمل أن يكون الرسول خاطبه من بعد لما قال: هلكت قريش ورب الكعبة! إن القوم إنما أتوا عماراً أي: استعظم كيف يأتون محرمين بهذه الهيئة ثم يصدون عن البيت! وكانوا يعرفون في الجاهلية أن هذا سبب من أسباب الهلكة، فقال: (هلكت قريش ورب الكعبة)؛ لأنهم يصدون من قصد هذا البيت للعمرة، فلذلك قال له النبي عليه السلام: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك).
يقول: فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له)، واستقبله الناس يلبون -حتى يشعروه بأنهم ما أتوا إلا للاعتمار- فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
والتقليد في هذا السياق هو التقليد للبدن يعني: أن يعلق في عنق الهدي قطعة من جلد وغيره يكون علامة على أنه هدي، وأما الإشعار فهو أن يطعن صفحة سنام الإبل اليمنى، وهي مستقبلة القبلة، ويلطخها؛ بالدم ليعلم أنها هدي، والتقليد والإشعار من تعظيم وإظهار شعائر الله، وربما أحياناً يضع بعض الناس على الجمال نوعاً من القماش الأبيض إشارة أيضاً إلى أنها هدي، والإشعار أيضاً علامة على أن هذا الهدي مسوق إلى بيت الله عز وجل، فهذه من أمارات إظهار شعائر الله سبحانه وتعالى.
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت.
وزاد ابن إسحاق: وغضب وقال: يا معشر قريش! ما على هذا عاقدناكم! أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟! فقالوا: كف عنا -يا حليف - حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى.
ويؤخذ من هذا أن كثيراً من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وكانوا ينكرون على من يصد عن ذلك، وهذه من بقايا دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.