قال: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته) أمسك بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم.
(والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف)، وهذا فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف لقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس؛ لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر، أما هذا فبقصد الحراسة، وإرهاب الأعداء.
وفي رواية: (فكلما كلمه أخذ بلحيته)، وفي رواية: (فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة قائم)، وفي رواية أخرى: (أن المغيرة لما رأى عروة بن مسعود مقبلاً لبس لأمته، وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه)؛ لأن عروة عمه، فـ المغيرة كان حريصاً على ألا يعرفه من هو، فغطى وجهه، ولبس لباس الحرب واللأمة والمغفر، بحيث لا تظهر ملامح وجهه.
يقول: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف)، وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، (وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخر: فعل أمر من التأخير، وفي رواية ابن إسحاق: (كلما أخذ بلحية الرسول عليه الصلاة والسلام يضربه بنعل السيف، ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك) يعني: قبل أن أقطع لك هذه اليد التي تمتد وتمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم! وزاد عروة بن الزبير في رواية أخرى أنه كان يقول له: (أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه)، وفي رواية ابن إسحاق: فيقول عروة يرد عليه: (ويحك! ما أفظك وأغلظك!) وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه لاسيما عند الملاطفة، وفي الغالب لا يصنع ذلك إلا النظير بالنظير، فالنظراء يفعلون هذا بعضهم مع بعض، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لـ عروة عن ذلك، يعني: لم يمنعه من ذلك استمالة له وتأليفاً، لكن المغيرة لم يتجاوز عن ذلك، فالرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام كان يغضي ولا يعنفه على إمساكه بلحيته، مع أنه ليس نظيره، وإنما استمالة لقلبه وتأليفاً له، والمغيرة كان يمنعه إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له.
(فقال: من هذا؟) أي: من هذا الذي كل وقت يضرب يدي بالسيف، ويقول هذا الكلام الفظ الغليظ؟ (فقال من هذا؟ قال: المغيرة)، وفي رواية لـ أبي الأسود عن عروة: (فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب) أي: من كثرة الضرب على يده غضب، (وقال: ليت شعري) يعني: ليتني أعلم، (ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك؟! والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة)، وفي رواية ابن إسحاق: (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد؟! قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة).
فقال له عمه عروة: (أي غدر)، يعني: عرفتك يا غادر! (أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟)؛ (أي غدر) صيغة مبالغة في صفة الغدر، ألست أسعى في غدرتك أي: ألست أسعى في دفع شر غدرتك، وفي مغازي عروة قال له: (والله! ما غسلت يدي من غدرتك، لقد أورثتنا العداوة في ثقيف)، وفي رواية ابن إسحاق: (وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس)، قال ابن هشام في السيرة: أفاد عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه؛ وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفراً من ثقيف من بني مالك، فغدر بهم وقتلهم، وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك ورهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفساً واصطلحوا.
وحاصل القصة عند ابن الكلبي والواقدي: أنهم كانوا خرجوا زائرين المقوقس بمصر، فأحسن أليهم وأعطاهم، وقصر بـ المغيرة، فحصلت له غيرة منهم، فلما كانوا في الطريق شربوا الخمر، فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم، ولحق بالمدينة فأسلم، لذلك يقول هنا في رواية البخاري: (فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة قال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء).
قوله: (أما الإسلام فأقبل) يعني: أقبله منك (وأما المال فلست منه في شيء) أي: لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، فالغدر لا يحل حتى مع الكافر إلا في حالة الحرب، لكن في الحالة التي يكون آمناً فيها لا ينبغي للمسلم أن يغدر أبداً.
يقول الحافظ: ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلماً كان أو كافراً يعني: ينبغي أن يكون خلق المسلم الأمانة مع كل أحد، حتى لو كان كافراً، قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فأموال الكفار تحل بالمحاربة والمغالبة، كغنيمة في حالة حرب، أما في الحالة التي أعطاك فيها الأمان أو يوجد نوع من الأمان بينك وبينه، فالتعرض له من الغدر، ومعلوم وعيد الغادر يوم القيامة.
وهذا الأدب وهذا الخلق يحتاج إليه كثير ممن يزعمون الالتزام والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من بعض الجماعات في بلاد الكفار، وحتى في باقي بلاد المسلمين، حيث يقع كثير من الغدر والخيانة في موضوع الأموال بالنصب والسرقة، وهذا موجود كثير جداً للأسف الشديد، وهو في أمريكا بصورة أكبر، وكان للأسف الشديد جداً في أول الأمر يوجد عندهم نوع من التسامح الشديد في المعاملات، حتى بدأت تشيع الخيانة والكذب والغدر ممن ينتسبون إلى الإسلام، فكانت تزيد التعقيدات بمرور الوقت، وبالذات في موضوع المكالمات الهاتفية ونحوها، فأصبحوا الآن -وللأسف الشديد- يقارنون أصحاب البلاد ببعضهم البعض، ففي أمريكا أي مكالمة خارج البلاد يكون فيها إجراءات استثنائية كمصر وباكستان وإسرائيل عصابة اليهود، فإذا تريد أن تتصل فلابد أن يتأكدوا أولاً من الهوية، تحرزاً من سرقة كروت الاتصالات، فتخيل أن شخصاً يستخدم مكالمة من وراء البحار لمدة ساعة ونصف ويكون صاحبه أو قريبه هنا يشغل له التلفاز ليتابع المباراة، وهو مستمر في فتح خط الهاتف؛ لأنه لص لا يدفع المال من جيبه؛ لأنه ليس من الممكن أن يبذل هذا المبلغ الضخم الذي سيدفع مقابل هذه الساعة والنصف من جيبه، فهو يسرق.
وقد حصل في يوم من الأيام أن شخصاً من هؤلاء اللصوص اتضح له أن الكرت الذي يتصل به ملك لشخص مسلم! يعني: آذى مسلماً بهذه السرقة وهذه اللصوصية، فهذه لصوصية ولا يمكن أبداً أن تسمى بغير ذلك، فينبغي للإنسان أن يتنزه عن هذه الأشياء، فبعض الناس يتحايل بصورة دنيئة جداً وقبيحة وكريهة في السرق والنصب، بحجة أن هؤلاء كفار! والحديث في هذا يطول.
فهذا ليس من خلق المسلم، والإسلام بريء من أخلاق هؤلاء الناس، لأن أقل ما في هذا الموضوع هو صد الناس عن سبيل الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94] فهذه الآية مهمة جداً لنا جميعاً، وبالذات لهؤلاء الناس الذين يفعلون أشياء من الخيانة والغدر واللصوصية، ويزينونها لأنفسهم بأهوائهم، ففي هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عندما يتعاملون مع الكفار أو مع غيرهم أن يؤكدوا العهد والميثاق أو الاتفاق الذي يتفقون عليه بأن يقسموا بالله سبحانه وتعالى، فإذا أقسموا بالله فإن الطرف الآخر يصدقه؛ لأنه لا يتصور أن يحلف بالله كاذباً، فهؤلاء مؤمنون ومسلمون ولا يمكن أن يكذبوا، قال تعالى: ((وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ))، فجاءت الآية تحذر المؤمن من أن يستعمل الحلف باسم الله سبحانه وتعالى وسيلة لخداع الناس وغشهم: (َلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) أي: لا تستعملوا اسم الله والحلف بالله للإفساد بين الناس وأخذ حقوقهم، فإذا فعلتم ذلك ووقعتم في هذه الورطة فإنه يترتب على ذلك شران: الأول: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) بعدما كنتم موصوفين بوصف الأمانة صرتم خونة، وبعد التقوى صرتم فجاراً، وهكذا (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) عن الطريق المستقيم، فهذا انحراف وانحياز عن الطريق المستقيم، فهذا هو الوعيد الأول، قال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11].
الوعيد الثاني: قوله: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ الله) يعني: إن هذا السلوك منكم من الخيانة والغدر والكذب يترتب عليه أن الناس يصدقونكم، فإذا خنتم وغدرتم فسيقولون: لو كان في دينهم خير لما سرقوا ونصبوا، ولما حلفوا كاذبين، لو كان في دينهم خير لما فعلوا ذلك! وهذا الاتهام غير صحيح؛ لأنهم بشر غير معصومين، ولكن أنتم تعطونهم الذري