النبي صلى الله عليه وسلم يكون شاهداً على أمته يوم القيامة، وهل النبي صلى الله عليه وسلم الآن حي في قبره أم لا؟ هذه قضية مختلفة تماماً عن هذه، وقد روي حديث نصه: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم) وهذا الحديث يقول فيه الشيخ حامد الفقي رحمه الله تعالى: هذا حديث باطل سنداً ومتناً؛ إذ لم يروه إلا الديلمي عن أنس وابن سعد في الطبقات مرسلاً عن بكر بن عبد الله.
وروى البزار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم) فهذا أيضاً ضعيف، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)، فهو صحيح، ولكن الكلام في تضعيف قوله: حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، والمحدثون لهم كثير من الكلام في تضعيف هذا الحديث وإثبات بطلانه، فإن الهيثمي قال في المجمع: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وهذا خطأ منه رحمه الله تعالى، فالحديث ضعيف بجميع طرقه.
وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه -كما في صحيح البخاري - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حديث: (فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب -وفي بعض الروايات: مثل الربابة- فقيل لي: ذاك منزلك، قلت: فدعاني أدخل منزلي، فقالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك).
وهذا الحديث مما يبين بطلان الحديث السابق؛ لأن النبي صلى عليه السلام إذا استكمل عمره فإنه ينتقل إلى منزله الذي أريه في هذا الحديث.
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيا الآن حياة برزخية، ينعم فيها أيما نعيم، وقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة حق التبليغ، وجاهد بنفسه وماله حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والنبي صلى الله عليه وسلم لو أنه يطلع على ما عليه الأمة الآن من الإذلال والبدع والضلالات والشركيات والإعراض عن شرع الله عز وجل، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا شك أنه لو اطلع على ذلك لتنغص وتألم أشد التنغيص والألم، ولغلب عليه بمقتضى هذا الخبر الضعيف الحزن والأسف؛ نظراً لكثرة المعاصي والشرور، وقلة الطاعات والخيرات في أمته صلى الله عليه وسلم، خاصة في زمننا هذا، فلا شك أن هذا يتنافى مع وجوده في هذا النعيم؛ لأن الحزن والحسرة والنصب يتنافى مع النعيم والثواب.
والصحابة رضي الله عنهم قد حزنوا حزناً شديداً لوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقف الموقف الذي تعرفونه، فكيف يكون موته خيراً لهم؟ ولو كان مماته خيراً لهم لما حزنوا على ذلك، فكيف يكون موته خيراً لهم وقد كان في حياته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، ويحسم أمرهم، ويقطع الله به أسباب الخلاف.
أيضاً قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، فهذه الآية تدل على أن المغفرة منوطة بالإيمان والعمل الصالح، فكيف يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الذين حادوا الله ورسوله، وانحرفوا عن هديه، والله تعالى يقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] يعني: في الدنيا، وإن كان يعلم أنه هو نفسه عليه الصلاة والسلام في الجنة?! وقال صلى الله عليه وسلم لابنته ولذوي رحمه: (اعملوا فلن أغني عنكم من الله شيئاً)، والحديث السابق من شأنه أن يقوي ويدعم روح التواكل والتواني عند الغافلين المفرطين، الذين يحسبون أنهم قد ضمنوا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إن أشد الناس انغماساً في البدع والضلالات يستعملون عبارة شائعة خاصة عند الصوفية الذين يقولون: (يا بختنا بالنبي) ويقولون: نحن نغبط أنفسنا على أننا منتمون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهم مغترون؛ لأنهم على بدع وضلالات وانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمثال هؤلاء المبتدعة أو المنحرفين إذا أتوا يوم القيامة بأوزارهم يقولون: يا رسول الله! اشفع لنا.
فيقول لهم جميعاً: (قد بلغت لا أملك لكم من الله شيئاً)، وهذا لا يتعارض مع ما ذكرناه بالنسبة للشفاعة؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن ارتضاه الله، ولا تكون أيضاً إلا بإذن من الله سبحانه وتعالى، فالأمر في الحقيقة كله لله.
ومن أقوى الوجوه الذي يبطل بها هذا الحديث ما رواه الشيخان بسنديهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) يعني: أنا الذي أتقدمكم وأسبقكم إلى الحوض، قال: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم)، أي: من الحوض؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يتصدر الحوض ويسقي ويعطي المسلمين المتبعين له، يقول: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني) (اختلجوا دوني) يعني: أبعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أي رب! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!) لا شك أن هذا نص واضح جداً يبطل الحديث الأول؛ لأنه إذا صح قوله: (تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت) إلى آخره؛ فإنه يكون كان عالماً بما حصل من بعده، لكن هذا الحديث المتفق عليه دليل واضح وصريح بأنه لا يدري ما أحدثوا بعده، ففيه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:117 - 118] قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم).
وهذا الحديث واضح الدلالة جداً على هذه المسألة؛ لأن فيه: (وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي -يعني: يقول ذلك على حسب علمه بهم- فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فيستشهد النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقول المسيح عليه السلام: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117] أي: حاضراً معهم ومشاهداً لأفعالهم ما دمت فيهم، فقوله: (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) (ما) معناها وقت دوامه فيهم، ((وكنت عليهم شهيداً)) وقت دوامي وبقائي فيهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فخصص الرقابة والشهادة بعد وفاته لله سبحانه وتعالى ((وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقباهم).
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال) يعني: إلى جهة النار.
وفي البخاري: (فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم -يعني: تعالوا- فقلت: إلى أين؟! قال: إلى النار).
وفي حديث سهل: (ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم يوم القيامة).
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب! أصيحابي) بالتصغير هذا خبر مبتدأ محذوف تقديره: أي: هؤلاء أصيحابي.
ولـ أحمد والطبراني من حديث أبي بكرة مرفوعاً: (ليردن علي الحوض رجال ممن صحبني ورآني) وهذا سنده حسن كما قال الحافظ.
وقال الحافظ أيضاً: قال الفربري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر.
فالمقصودون بهذا الحديث هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقاتلهم أبو بكر فقتلوا أو ماتوا على الكفر، قال الخطابي رحمه الله تعالى: لم يرتد من الصحابة أحد، يعني: الذين ارتدوا ليسوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين؛ وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (أصيحابي) بالتصغير؛ لأن التصغير هنا يد