قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب:45]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: خياراً عدولاً، وسطاً: خياراً عدولاً، ويدل بأن الوسط الخيار العدول قوله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم أي: خيار عدول.
وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} لم يبين هل هذه الشهادة تكون عليهم في الدنيا أم في الآخرة؟! لكنه بين في موضع آخر أن هذه شهادة على الأمة تكون في الآخرة في قوله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42].
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا): وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً، والقرطبي رحمه الله تعالى أطلق هذه الكلمة أن الكعبة وسط الأرض، وربما لم يخطر بباله ما تنتهي إليه البحوث العلمية مؤخراً من أن مكة بالفعل هي مركز اليابسة وهي أم القرى فعلاً، فمركز اليابسة على سطح الأرض هو مكة المكرمة، فكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، وسطاً في الرتبة ففوقكم الأنبياء، وتحتكم الأمم الأخرى، والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143] قال: عدلاً) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال تبارك وتعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: أعدلهم وخيرهم.
وقال زهير: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقال آخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن بالأمور فرطاً لا تسألن إن سألت شططا وكن من الناس جميعاً وسطاً ووسط الوادي خير موضع فيه، وأكثره كلأً وماء، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، فالنصارى غلو في حق المسيح عليه السلام، حتى عبدوه من دون الله، واليهود جفوا في حق الأنبياء وقصروا حتى شتموا الأنبياء وسبوهم ونسبوا إليهم أقبح الكبائر، وأخس الخصال، كما في كتبهم التي افتروا فيها الكذب على الله سبحانه وتعالى، وجاء في بعض الآثار: (خير الأمور أوسطها).
(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يعني: في المحشر تكونون شهداء للأنبياء على أممهم، كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك، فيقال له: هل بلغت؟! فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير)؛ لأن الكفار يوم القيامة يحاولون أي حيلة لعل وعسى أو ليت بتعبير أدق، فيلجئون إلى الكذب حتى إنهم يلجئون إلى اليمين المغلظة، قال تعالى حاكياً عنهم: ((وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) يقولون: الملائكة ظلمتنا، الملائكة تفتري علينا وتدعي علينا أننا كنا نشرك بالله، ويظنون أن هذا اليمين تنفعهم وقد عاينوا يوم القيامة، فلذلك يتذرعون بأي حيلة كالحلف باليمين الغموس الكاذبة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، كذلك الأمم حينما يسأل الله سبحانه وتعالى نوحاً: (هل بلغت؟ -يعني: قومك- فيقول: نعم، فيقال لأمة نوح: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟) يخاطب الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام يقول: (من يشهد لك؟ فيقول نوح عليه السلام: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيداً) فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] وعند ابن المبارك نفس هذا الحديث بزيادة: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟!) يعني: كيف يقبل الله سبحانه وتعالى شهادة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وهم لم يعاينوا نوحاً حينما بعث إلى قومه؟! (فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا) أي: لأن القرآن الذي أنزلته إلينا، وهو كلامك الصدق والحق؛ هو الذي أخبرنا أن نوحاً أبلغ أمته الرسالة: (فيقول الرب عز وجل: صدقوا).