نريد أن نلفت النظر إلى حاجتنا الماسة -خاصة في الظروف التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام- إلى الأمل، وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى، وأن يتعلق الإنسان بالرجاء؛ لأن مقتضى الإيمان حسن الظن بالله، وتنزيه الله عن سوء الظن به عز وجل، كما يقول الشاعر: أعلل النفس بالآمال أرشدها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وبدلاً من أن نقول: قال الشاعر، نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فنحن أمرنا بالتبشير، وأن نوقظ في قلوب الناس الأمل وحسن الظن بالله عز وجل، وانتظار الخير والتفاؤل بالمستقبل.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي -وهو حديث حسن- يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا) (أنا أول الناس خروجاً) يعني: من القبور (إذا بعثوا).
(وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مذكرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر) صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه من خصائص رسولنا عليه السلام: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا)، فهو فعلاً مبشر الأمة إذا أيسوا، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (بشروا ولا تنفروا)، فكان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائماً بعث الأمل في النفوس؛ لأن هذا أقوى سلاح تهزم به عدوك حتى لو كنت في أقصى درجات الاستضعاف، ولن نذهب بعيداً، لكننا سنأتي بالدليل من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنهتدي بهدي من هديه في هذه المحنة.
يقول خباب بن الأَرَت رضي الله تعالى عنه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار على رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) وفي حديث آخر لـ خباب قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يفتنا) وهذا الحديث له تفسيران: التفسير الأول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: صلاة الظهر في الحر الشديد (فلم يفتنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يأذن لنا في أن نؤخر صلاة الظهر إلى أن تبرد الأرض ويتكون الظل، وهذا كان أولاً، ثم نسخ بعد ذلك بجواز الإبراد في صلاة الظهر وتأخيرها إلى أن يكون ظل، فهذا الحديث منسوخ على هذا التفسير.
التفسير الثاني: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: تعذيب المشركين إيانا بحر الرمضاء، (فلم يشكنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يدع لنا، وإنما فعل كما بينته الرواية الأخرى: عزاهم وواساهم بأن هذه سنة الله في الذين خلوا من قبل، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فهذه سنة الله في الابتلاء، ولابد أنها ماضية، قبل أن يمكن الله هذا الدين لابد أن يدفع لهذا التمكين هذا الثمن، ولذلك قال: (لقد كان من قبلكم) لأنهم يقولون: (ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟) لا نجد في الحديث دعاء ولا استنصاراً، وإنما هو تعزية وتسلية بسنة الله التي لا تتبدل من ابتلاء المؤمنين، (لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل) إلى آخر الحديث، ثم قال مذكراً إياهم في أحلك اللحظات -وهذا هو الشاهد من كلامنا: أن المؤمن حتى في أشد اللحظات لا يسيء الظن بالله، بل لابد أن يؤمل رحمة الله عز وجل-: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر) وهذا قاله وهم في أشد حالات الاستضعاف، (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) وهذا هو الخوف الواجب من الله سبحانه وتعالى، (والذئب على غنمه) وهذا هو الخوف الفطري فقط، لكن لن يخاف من أي شيء سوف يلاقيه، وهذا بشارة تمكين المسلمين، وقد حصل هذا، بل أضعاف هذا كما هو معلوم.
إذاً: في لحظات الشدة والمعاناة ينبغي أن يتسلح المسلمون والمؤمنون بالأمل في الله عز وجل، فالمستقبل للإسلام، وليس هذا كذباً على الناس، وإنما هو تذكير لهم لما بشرهم به الصادق المصدوق الذي وصف نفسه بقوله: (وأنا مذكرهم إذا أيسوا) يعني: هو الذي يزيل ظلمة اليأس والقنوط بالبشارة والإخبار بأن المستقبل لهذا الدين.
فالأمل والتفاؤل وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى من خصائص المؤمنين، بخلاف الكافرين كما ذكرنا، وقد روى الترمذي بسند فيه موسى بن محمد وهو منكر الحديث، لكن إذا صح الحديث فإنه يفيدنا الاستشهاد به في هذا الموضع، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً، ويطيب نفسه) (إذا دخلتم على المريض) يعني: لعيادته (فنفسوا له في أجله) يعني: أذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله، يعني: قد يكون المريض مشرفاً مشفقاً أن يموت، ففي هذه الحال الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر أن من آداب عيادة المريض -إذا صح الحديث- تشجيع العليل بلطيف المقال، وحسن الحال، فأنت قل له: لا بأس طهور إن شاء الله، أو تدعو له بطول العمر أو البركة في العمر، وأن الله سيشفيه ويعافيه، أو تقول له: لا تخف سوف يشفيك الله عز وجل إلى آخره، فتنفس له في أجله يعني: أنك تمنيه وتعطيه الأمل أنه سوف يحيا ويعيش، ولا يجزع من الموت، إلا إذا كان المرض فعلاً خطيراً، وهو على وشك الموت بالفعل، فمن الغش والخيانة أن تخبئ عنه أنه على وشك الموت، كما يذهب بعض الناس إلى إخفاء حقيقة المرض عن المريض، وإخباره به فيه مصلحة له في أن يعرف أنه مقبل على الموت، فلو أن عنده أمانات للناس يردها أو وصية يوصي بها ويستعد بالتوبة وغير ذلك من الخيرات الكثيرة، والشاهد إذا صح الحديث: (ونفسوا له في أجله) إما بهذا المعنى تعطيه أملاً في أنه سوف يشفى ويعافى، أو نفسوا له يعني: وسعوا له في أجله، فيتنفس عنه الكرب؛ لأن التنفيس هو التفريج.
فالمقصود: أننا نذكر له كلاماً نبعث له فيه الأمل في طول عمره.
يقول: (فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً) (فإن ذلك) يعني: ذلك التنفيس كلمة طيبة، ولن ترد شيئاً من قدر الله، إن قدر الله أنه يموت فسوف يموت، سواء بهذا المرض أو بغيره، فهذا التنفيس لن يضر شيئاً من الموت المقدر، ولن يطول عمره، ولكنه يطيب نفسه، ويفرج عنه، وينعشه، ويبعث فيه الأمل، (فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه).
فلذلك نجد الأطباء يلجئون لشيء من هذا مع المرضى، لكن أحياناً بطريقة فيها كذب، فبعض الأمراض المستعصية جداً ممكن الدكتور يقول للمريض: هذا دواء يجرب في هذا الوقت فيعالج هذه الحالة، ويكون الدكاترة ما اكتشفوا الدواء بالفعل؛ لأن كل داء له دواء، وهذا من أعظم آداب الإسلام، ومهما حاول الطب لم يستطع أن يصل إلى هذه القمة التي عبر عنها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء) فما نقول أبداً كما يقول الأطباء الغربيون مثلاً: السرطان ليس له دواء، السكر ليس له دواء يستأصله، لكن نقول: له دواء لكننا لم نكتشفه ولا نعرفه، فيوجد له دواء؛ لأن الصادق المصدوق أخبر أن الله الذي ينزل الداء ينزل معه الدواء: (علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داء واحداً هو الهرم) أي: الشيخوخة والموت.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يراعي هذا الأدب، وتأملوا الحديث الآخر حينما كان عليه الصلاة والسلام يعود مريضاً ماذا كان يقول: (اللهم أذهب الباس، رب الناس) تأملوا كم مرة تكررت مادة (شفا) ومشتقاتها في هذا الدعاء، فهذا فيه بعث التفاؤل في طول الأجل، وأنه سوف يشفى، فالأمل مهم جداً أن يتسلح به الإنسان، والدعاء هو: (أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) يعني: الشفاء من المرض الذي لا يكون بعده نكسة؛ لأن كثيراً من الأمراض حتى لو شفي الإنسان بعدما يتعاطى الدواء فممكن من بعد أن الإنسان تحصل له نكسة ويرجع المرض من جديد، لكن انظر إلى حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يدعو له بالشفاء، (لا يغادر سقماً) بحيث لا يعود له المرض أبداً، ولا يحصل له نكسة وانتكاس، فنحن نريد أن نقتبس من هذه الآداب النبوية أن الأمة أيضاً إذا مرضت ننفس لها في الأجل، لا أقول: نكذب كما يكذب بعض الأطباء يريد أن يحسن الحالة النفسية للمريض؛ لأن لها تأثيراً كبيراً على الحالة العضوية، فلا نريد أن نسلك هذا المسلك، لكننا سوف نأتي بكلام من لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن النصر والتمكين والمستقبل لهذا الدين، فينبغي أن نلتزم قول النبي عليه السلام ففي الحديث: (خير الهدي هدي محمد) صلى الله عليه وسلم، فمن هديه وصفاته ما ذكره في هذا الحديث: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا) فعلينا أن نبشر الناس إذا أيسوا وإذا ادلهمت الخطوب.
وهذا من باب الأمل، وقد فتح الله باب الأمل لأكفر الخلق إجراماً وهم المنافقون، دعاهم الله سبحانه إلى التوبة، ودعا أهل الكتاب من النصارى الذين سبوه وشتموه إلى التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، ودعا الكافرين وفتح لهم باب الأمل في الجنة فقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، ودعا العصاة المسرفين على أنفسهم بالمعاصي فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَ