ما زلنا في بيان معنى قوله تبارك وتعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، الحقيقة الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الفصل سرد تقريباً كل ما يظن البعض أنه ذنوب وقعت للأنبياء نص عليها في القرآن الكريم، ثم ظل يبين أن هذه الآيات لا تخرج عما ذكرناه، فالذنب إما أن يكون من باب ترك الأولى، أو أنه ذنب بالنسبة لمناصبهم الجليلة أو الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى، أو أنه اجتهاد أرادوا فيه إرضاء الله، فبان بعد ذلك أنه خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، ولكنه لا يقر إذا أخطأ في اجتهاده، بل يأتي الوحي مصححاً له هذا الأمر، فتكلم في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، ولوط، وإخوة يوسف، وموسى وأمه، ويونس، وداود، وسليمان، وهذا في كتاب الفصل، وهو فصل كبير في هذه المسألة، وهو من أوسع الأبواب في ذلك.
لكن سنقتصر على ما ذكره هو وغيره متعلقاً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار أننا نفسر هذه الآية: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، قالوا: فإن لم يكن له ذنب عليه الصلاة والسلام فماذا غفر له وبأي شيء امتن الله عليه في ذلك؟! يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: قد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان لا بتعمد نسيان أو بقصد ما يظنونه خيراً مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم.
فهذان هما الوجهان اللذان غفرهما الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، ما حصل منه على سبيل النسيان، أو ما فعله يقصد فيه الخير فلا يوافق رضوان الله سبحانه وتعالى، من ذلك مثلاً قول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، ما هو الذي أخذوه؟ الفداء من الأسارى، قال ابن حزم: إنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية لا يفهم منها أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ارتكب هذا الذنب، وإنما الخطاب للمؤمنين: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ)) يعني أيها المسلمون ((عَذَابٌ عَظِيمٌ))، وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين، يبين ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، وقال تعالى في نفس هذه السورة النازلة في هذا المعنى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، وقال تعالى أيضاً قبل ذلك الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فهذا نص القرآن، وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المذكورة يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، فيه أنه لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ)) يعني: حكم سبق في قضاء الله أنه لا يمكن أن يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، أي: حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية أولاً.
واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال كما في قوله تعالى: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ))، وأصح هذه الأقوال أنه ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا، فلما كان يوم بدر أسرع الناس إلى الغنائم، فأنزل الله عز وجل: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ)) أي: بتحليل الغنائم، ((لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغنائم لا تحل لأحد سود الرءوس غيركم، وكان النبي وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها) رواه أبو داود الطيالسي والترمذي وقال: حسن صحيح.
فكان فيما مضى النبي إذا جاهد مع قومه يجمعون الغنائم في مكان واحد، ثم تنزل النار من السماء فتلتهم هذه الغنائم، ولم تكن تحل لهم الغنائم، ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم ولأمته، فأنزل الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:68 - 69].
وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم.
وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معيناً، والعموم أصح؛ لقول الرسول السلام لـ عمر في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أخرجه مسلم، هل معنى ذلك أنهم يصبحون معصومين؟ لا، بل معناه: أن أهل بدر إذا عاشوا بعد نزول هذه الآية، فمن يرتكب منهم معصية فإنه يأخذ لإزالة هذه المعصية بالتوبة، كلما ارتكب خطأً أو ذنباً فإنه يوفق إلى التوبة.
وقيل: الكتاب السابق: هو ألا يعذب أحداً بذنب أتاه جاهلاً حتى يتقدم إليه.
وقالت فرقة: الكتاب السابق هو ما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.