لنتأمل قوله: وتكلم المؤمن مع الكافر يعني: بدءوا يشغلون العقول، وهذه كانت أعظم ثمرة؛ لأن الإسلام يستفيد جداً من هذا الجو الذي فيه حرية، فالباطل يمارس الباطل بكل حريته، فليتركوا إذاً الحرية للحق أيضاً، ولا يمكن أن يصمد الباطل، وحتى لو تكتل كل أهل الباطل على وجه الكرة الأرضية أمام الإسلام لا يمكن أن يصمدوا فالنتيجة معروفة مسبقاً ومقطوع بها، فأنا كنت أريد تسليط الضوء على هذه العبارة: (وتكلم المؤمن مع الكافر) يعني: الرسالة الإعلامية كانت تصل صحيحة إلى الكافر، فتأمل هذا الكافر لو كان عنده بصيص من نور الفطرة، ثم يسمع عن الإسلام، فإنه ينجذب إليه انجذاباً شديداً جداً؛ كما قال الله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، نور الفطرة مع نور الوحي، نور الفطرة التي أودعها الله في قلبه وهو الله الذي خلقه، ونور الوحي الذي أنزله الله، الذي: {يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فتأملوا هذه العبارة الرائعة لـ ابن كثير رحمه الله تعالى؛ لأنها تكشف لنا سر وصف صلح الحديبية بأنه فتح، مع أن النظرة الأولية التي أهملت العواقب التي لا يعلمها إلا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت هي التي جعلت بعض الصحابة يعترضون، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقد اشتد جداً في الاستغراب، وقال: كيف نعطي الدنية في ديننا؟! في حين أن كان الأمر عند الله وعند رسوله فتحاً مبيناً، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، ويلخص الحافظ ابن كثير صفة هذا الفتح وسببه، فيقول: فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ما مثاله: كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلم بعضهم بعضاً، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، ولهذا سماه الله فتحاً في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، نزلت في الحديبية، فقال عمر: (يا رسول الله! أوفتح هو؟! قال: نعم) وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحاً قريباً بقوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، وهذا شأنه سبحانه وتعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها.
وهي التي نسميها الإرهاصات فهي مقدمات توضح وتمهد لحدوث أمر عظيم وجليل.
فصلح الحديبية: عبارة عن إرهاص بين يدي صلح بين يدي الفتح الأعظم الذي هو فتح مكة، ولذلك جاء في أثناء السورة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] أي: سوف يحصل وهو فتح مكة.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا، وخلق الولد له مع كونه كبيراً لا يولد لمثله، فتأمل في سورة آل عمران، وحتى في سورة مريم قدم الله سبحانه وتعالى أولاً قصة زكريا، وكيف أنه دعا ربه، وقبلها أنه كان يدخل على مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، كرامة لمريم عليها السلام، أن يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، فهذه كانت كرامة لـ مريم الصديقة عليها السلام، فـ {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38]، لما رأى خرق العادة لـ مريم علم أن ربه قادر على أن يخرق له العادة أيضاً مع كونه شاب شعر رأسه، وبلغ من الكبر عتياً، وكون امرأته عاقراً لا يولد لها، وقد طعنت أيضاً في السن، وهو حريص على الولد: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5 - 6]، ويستحيل أن يظن من زكريا أنه كان قلقاً على مستقبل أولاده وذريته من أجل المال والعقارات، لا، ((يَرِثُنِي)) يعني: في النبوة؛ لأن الأنبياء لا يورث عنهم مال، وإنما يرثه في العلم والدعوة، فهو كان قلقاً على الإسلام، ولم يكن قلقاً على المال والدنيا ((يَرِثُنِي)) أي: في العلم والنبوة: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6].
ثم رزقه الله سبحانه وتعالى يحيى عليه السلام كما قص علينا في القرآن، فهذا كله كان مقدمة وتوطئة لما هو أعظم وأخطر آية، وهي خلق المسيح عليه السلام من غير أب، فتجد أن هذا التدرج للتمهيد بين يدي أمر عظيم، وهو خلق المسيح عليه السلام ليجعله آية للناس.
وكما قدم بين يدي تحويل القبلة في سورة البقرة مقدمات، فهي أولاً: بدأت بقصة البيت (الكعبة)، وبنائه وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه وتعظيمه قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] إلى قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127] إلى آخر الآيات.
فكل هذا التمهيد لأن الهدف النهائي -وهو أمر عظيم جداً- سيحصل، وهو تحويل القبلة، فقبل أن يخبر أن القبلة ستتحول من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بدأت الآيات بذكر قصة بناء البيت الحرام، وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه -وهو إبراهيم عليه السلام- وتعظيمه ومدحه.
وقبل ذلك قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ} [البقرة:106] فهذه مقدمة أيضاً؛ وإرهاص وتمهيد قبل حصول هذا الأمر، فبدأ بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقدرة الله الشاملة عز وجل على نسخه، فهذه كلها كانت توطئة وتمهيداً بين يدي حدث خطير جداً، وهو تحويل القبلة، ثم قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144].
وهكذا أيضاً ما قدمه بين يدي نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف حدث في تاريخ الإنسان كله، ولادة النبي وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فماذا حصل في عام ولادته؟ حصلت أولاً قصة الفيل.
أيضاً تكاثرت بشارات الكهان والجن قبل بعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه كلها عبارة عن إرهاصات ومقدمات لهذا الحدث الجليل.
كذلك قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)، فهذه عبارة عن تمهيد من الله سبحانه وتعالى لبدء الوحي، فهذه عمليات التمهيد بين يدي الحدث الأعظم، وهو نزول الوحي عليه في اليقظة، فأتاه الوحي أولاً في المنام عن طريق الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك الهجرة هي المقدمة بين يدي الأمر بالجهاد، ومن تأمل أسرار الشرع والقدر رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب.
انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.