وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]، وقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:24 - 25].
((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها، (كماء) أي: كمثل ماء، ((أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ)) أي: اختلط بالماء نبات الأرض، فأخرجت ألواناً من النبات، أو اختلط النبات بالمطر، أي: شرب منه، فتندى وحسن واخضر، والاختلاط هو تداخل الشيء بعضه في بعض.
((فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ)) أي: مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، ومما تأكله الأنعام من الكلأ والتبن والشعير.
(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) أي: حسنها وزينتها، فالزخرف هو كمال حسن الشيء، ومنه قيل للذهب زخرف.
(وظن أهلها) أي: أيقن أهلها (أنهم قادرون عليها)، أي: على حصادها والانتفاع بها.
(أتاها أمرنا) أي: عذابنا، أو أمرنا بإهلاكها.
(ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً) أي: محصودة مقطوعة لا شيء فيها.
(كأن لم تغن بالأمس) أي: كأن لم تكن عامرة، والمغاني في اللغة هي المنازل التي يعمرها الناس.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى وصف هذه الدار -وهي دار الدنيا- وصف الدار الآخرة فقال: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي أنه لا يرضى لكم الدنيا التي هذه صفتها وطناً، وإنما يدعوكم إلى دار السلام، فهو سبحانه لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة؛ لتصيروا إلى دار السلام، وهي الجنة.
((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: بالدعوة، إظهاراً للحجة وعدلاً منه تبارك وتعالى، فتأملوا هذا، فبعدما ذم الدنيا وبين حقارتها قال سبحانه وتعالى: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: يدعوا كل الخلق، بدليل أنه أغفل ذكر المفعول به، لم يقل: (والله يدعوكم)، وإنما قال: (والله يدعو)، أي: جميع الناس إلى دار السلام، للدخول في الإسلام وطاعة الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، فخصّ هنا في الهداية من يشاء هدايته، وعم أولاً بالدعوة؛ إظهاراً للحجة، وعدلاً منه سبحانه وتعالى أن الجميع مدعوون إلى الدخول في الإسلام والعمل الصالح؛ لأجل أن يستحقوا دخول الجنة، ثم خص بالهداية؛ استغناءً عن خلقه، ورحمة منه وتفضلاً، وهذه الآية حجة على القدرية الذين قالوا: لقد هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، أما الله سبحانه وتعالى فيقول: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]).
وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:69 - 70]، أي: أن هذا أقصى ما ينالونه في الدنيا، فإنهم يتمتعون فيها متاعاً مؤقتاً، ((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)).
وقال عز وجل أيضاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26] أي: في جانب الآخرة (إلا متاع) أي: متاع من الأمتعة، والمتاع هو الشيء القليل الذاهب، وهو مأخوذ من قولك: متَع النهار، أي: ارتفع، وإذا ارتفع النهار فلابد له من زوال ونهاية.
وقال ابن عباس في تفسير: قوله (إلا متاع) أي: زاد كزاد الراعي، وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح.
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، والزينة هي كل ما على وجه الأرض، فهو عموم من جهة خلقه وصنعه وإحكامه، فهذه الآية بسط في التسلية في مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لا تهتم يا محمد! للدنيا وأهلها، فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ويوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنّ عليك كفرهم، فإنا سنجازيهم.
ومعنى هذه الآية: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قيل: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض) أخرجه مسلم، والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرها كالثمر المستحلى، المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملاً، أي: من يكون أزهد فيها، وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغض ما زينه الله إلا أن يعينهم الله على ذلك، ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم! إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه.
فهذا هو المهم، أن يغنيك الله على إنفاق هذا المال في حقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع)، أي: أن المكثر من الدنيا كالذي يشرب من ماء البحر، فكلما شرب ازداد عطشاً، أما القانع الذي يقنع بما قسم الله سبحانه وتعالى له فإنه يبارك له في ذلك.
فالمكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها، بل همته جمعها؛ لأنه لم يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفتنة حاصلة معها، وعدم السلامة غالبةعليها، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه.
وقال ابن عطية: كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]: أحسن العمل: أخْذ بحق، وإنفاق في حق، مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه.
قال القرطبي: وهذا قول حسن وجيز في ألفاظه، بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد، وهو قوله لـ سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم.
وقال سفيان الثوري: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: أيكم أزهد فيها.
وقال العسقلاني: (أحسن عملاً) أي: أترك لها.