واللعن: هو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها).
وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بإسناد حسن.
فالإنسان إذا لعن أحداً فإن اللعنة تصعد إلى السماء، ثم تغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن كان الشخص الذي لعن يستحق هذه اللعنة أصابته، وإن لم يكن يستحقها فإنها ترجع إلى نفس الشخص الذي دعا باللعنة.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المسلم كقتله)، رواه البخاري؛ لأنه إذا لعن أخاه المسلم فكأنه دعا عليه بالهلاك.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبّاباً ولا فاحشاً ولا لعّاناً، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ماله ترب جبينه!) رواه البخاري.
وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة أي: فضجرت -ضجرت من الناقة- فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس لا يعرض لها أحد)، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لعّاناً).
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، رواه مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: فيه الزجر عن اللعن، وأن من تخلق به لا يكون فيه هذه الصفات الجليلة؛ لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله عز وجل، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة -وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى- فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يوده المسلم للكافر ويدعو عليه، يعني: أن الدعاء باللعن أمر في غاية الخطورة، وهو عنوان نهاية وأقصى التدابر والنفور والمقاطعة، فلهذا جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)؛ لأن القاتل إذا قتله فإنه يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة، أي: أن اللعن لو استجيب فإنه يكون سبباً للقطع عن نعيم الآخرة، ويبعد عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
وقيل: إن معنى: (لعن المؤمن كقتله) أي: في الإثم، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فمعناه: أنهم لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم اللذين استوجبوا النار.
وأما قوله: (ولا شهداء) ففيه ثلاثة أقوال، أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات.
الثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا، أي: لا تقبل شهادتهم؛ لفسقهم.
الثالث: لا يرزقون الشهادة، وهي القتل في سبيل الله تعالى.
وحتى لا يتوهم بعضكم التعارض بين أجزاء الكلام الذي ذكرناه في هذا الموضوع، فنلاحظ أن النبي عليه السلام استعمل صيغة المبالغة فقال: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعّاناً)، وهذه صيغة مبالغة، وقال أيضاً: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، وهذه صيغة تكثير، فلم يقل: لا ينبغي لصديق أن يكون لاعناً، ولم يقل: إن اللاعنين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة؛ لأن هذا الذم في الحديث إنما هو لمن كثر منه اللعن، وكان اللعن عادته، وأما من سُمع منه ذلك مرة أو نحوها فإنه ليس داخلاً في هذه النصوص.
وكذلك يخرج من هذه الأحاديث اللعنُ المباح، وهو الذي ورد الشرع به كقول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وقول النبي عليه السلام: (لعن الله اليهود والنصارى)، أو كلعن النبي عليه الصلاة والسلام للواصلة، والواشمة، وشارب الخمر، وآكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، ولعنه للمصورين، ومن انتمى إلى غير أبيه، أو تولى غيّر مواليه، ومن غير منار الأرض، وغير هؤلاء ممن هو مذكور في الأحاديث الصحيحة.