قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32].
قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)): المقصود بهم هنا المنافقون، وقيل: هم أهل الكتاب، وقيل: المشركون يوم بدر، ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) الراجح في تفسير الصد هنا أنه منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: ((وَشَاقُّوا الرَّسُولَ))، أي: عادوه وخالفوه مخالفة شديدة.
قوله: ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى))، أي: علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبي من عند الله سبحانه وتعالى بما شاهدوا من المعجزات الواضحة، والحجج القاطعة.
قوله: ((لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ))، أي: ورسوله صلى الله عليه وسلم، (شَيْئًا) أي: بصرفهم عن الإيمان، وإصرارهم على الكفر، ولن يضروا إلا أنفسهم كما في الحديث: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً).
قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: ثواب ما عملوه، والمقصود أنه يفسدها، والمراد بذلك أعمال الخير: كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن الكفر مانع من قبولها ومن الانتفاع بها في الآخرة.
وقيل: المراد بالأعمال في قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: مكائدهم.
إذاً: تحمل الأعمال على أحد معنيين: إما الأعمال التي ظاهرها الخير، مع أنها لا تنفعهم في الآخرة؛ لأنها خلت عن شرط الإيمان.
وإما أن المراد بالأعمال: مكرهم وكيدهم ومؤامراتهم.
قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: المكائد التي نصبوها لإطفاء دين الله، والغوائل التي كانوا يبغونها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ذكرنا من قبل: أن الراجح في كلمة (صد) هنا أنها متعدية، فهم كفروا في أنفسهم، ومنعوا غيرهم أيضاً من الإيمان والإسلام، وهذا الأمر ما زال مستمراً إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وآية ذلك ما يحصل الآن ومنذ زمن بعيد من الحرب على الدين التنفير منه، وتحريض الناس على الصد عن سبيل الله، وهذا له أنواع وأساليب كثيرة جداً في زماننا، فقد حاولوا تخليص كثير من الناس من التدين، ومعاقبتهم على التدين، وامتحانهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووصف المتدينين بأنهم متطرفون وعنصريون وإرهابيون وغير ذلك مما يرجف به أعداء الله سبحانه وتعالى.
وقلنا من قبل مراراً: إن أعظم حق من حقوق الإنسان هو حق الدين فنحن في عصر يتشبث فيه هؤلاء الكفار بحقوق الإنسان على طريقتهم، فإما أنهم يعتبرون المسلمين ليس لهم حقوق وبالتالي لا يستحقون هذه الحقوق، وإما أنهم يكيلون لا أقول بمكيالين، بل هو كيل واحد للمسلمين لم يتغير، وهو كيل الظلم والجور، ونقض العهود والمواثيق.
وأكبر جريمة ترتكب في حق الإنسان أن يحال بينه وبين سعادة الدنيا والآخرة، فتخيل شخصاً يتسبب في حرمان الناس من الخلود في الجنة وما فيها من النعيم، ويوردهم موارد الهلكة، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها).
إن أكبر جرم يرتكب في حق الإنسانية هو منع الناس من الدخول في الإسلام، فأعظم حق في الإسلام للإنسان، هو أن يصله نور التوحيد، ومن أجل ذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفتحون البلاد بالسيف، وبعض الناس يقول: هذا إكراه، ولا إكراه في الدين، فتقول: إن غاية ما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يريدونه هو أن يزيحوا الجيوش التي تقف على حدود هذه البلاد بعد دعوتهم للإسلام، فيصرون على مقاتلة المسلمين، ويريدون أن يبلغوا هذه الدعوة ويوصلوها إلى الناس مباشرة، فتقف هذه الجيوش على حدود هذه البلاد ليمنعوا نور الله سبحانه وتعالى من أن ينتشر في الآفاق، ويمنعوا أن تعلوا كلمة الله، وبالتالي يكون ذلك سبباً في حرمان الناس من دخول الجنة، فهم هجروا أوطانهم وديارهم وأبناءهم، وضحوا بالنفس والنفيس في سبيل أن يحملوا هذا النور إلى العالمين كما كلفهم الله مالك هذا الكون كله بذلك.
فكل ما كان يفعله الصحابة هو مجاهدة الجيوش التي تحول بينهم وبين ما أمرهم الله به فقط، فكانوا يقاتلون من امتنع، أما من لم يمتنع فيتركونه يدخل في دين الإسلام، ويمضون إلى شأنهم في فتح البلاد، فيزيحون القوى التي تقف أمامهم فقط، وأما عند معاملتهم مع الشعوب فإنهم لم يقهروا أحداً على الدخول في الإسلام، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] إلى آخر الآية، فكان الصحابة رضي الله عنهم لا يُكرهون أحداً على الدخول في هذا الدين، وإنما كان همهم أن يوصلوا هذا النور إلى العالمين، فكل من يقف ليمنع هذا النور سواءً بالتخويف والإرهاب والبطش أو بالفتك والقتل، فإن الإسلام له بالمرصاد، وقد سلط الغرب الكافر سلمان رشدي وأمثاله من الكفرة الملاحدة ليطعنوا في الرسول عليه السلام وفي الإسلام كما هو شأنهم، وكما حذرنا الله سبحانه وتعالى من ذلك من قبل، فوقف لهم أهل الحق بالمرصاد.
فأكبر حقوق الإنسان -إذا كانوا فعلاً صادقين- أن يتركوا نور الله يصل إلى هؤلاء الناس، لكننا نرى هؤلاء الناس غارقين في الوحل من الشرك والوثنية في كل أنحاء المعمورة، وسبب حرمانهم من هذا النور هو هذا الصد عن سبيل الله، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، فالصد عن سبيل الله صار وظيفة، فيوجد أناس متفرغون للصد عن سبيل الله.
وأنواع الصد كثيرة جداً، والصادون عن سبيل الله كثيرون، وقد حذرنا منهم الله سبحانه وتعالى، وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك يقول بعض السلف: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، إن أقامك في خدمة دينه والدعوة إليه فهذا أشرف المقامات؛ لأنها وظيفة الرسل، وإن أقامك في الصد عن سبيل الله، والتنفير من دين الله، ومعاقبة الناس على التدين، وتنفير الناس من دينهم بالأوصاف المنفرة فأنت في مقام سيء، وهذا أسلوب قديم أن يوصف أهل الدين وأهل الطاعة بالأوصاف المنفرة، فيأتي أهل الباطل إلى الحق ويغلفوه بأغلفة منفرة كما يقول الشاعر مشيراً إلى هذا التلاعب بالألفاظ، وما يكون له من أثر نفسي في تنفير الناس من الحق، يقول: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت: ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فمن الممكن أن تأتي إلى عسل النحل وتقول فيه إن أردت أن تمدحه: هذا جنى النحل، هذا محصول النحل، ومن الممكن أن تقول عنه تنفيراً منه: هذا قيء الزنابير، أي: ما تتقيؤه هذه الزنابير التي تلسع مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فنور الله ودين الله يوصف بالتطرف والإرهاب والأصولية، إلى غير ذلك من هذه المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
فويل لمن يجمع بين الكفر في نفسه والصد عن سبيل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}، سواء قلنا: أعمالهم التي أتوا بها وهي على صورة القيء، فإنها تحبط ولا تنفعهم الآخرة، أو ((َسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ))، يعني: كيدهم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16].
ولو أن أي دعوة واجهت من الحروب والتكفير والتشنيع والإبادة ما واجهه الإسلام والمسلمون لما بقي لها ذكر في التاريخ على الإطلاق، فليس من سبب في حماية وصيانة هذا الدين إلا أنه دين الله وحجته على خلقه.
وما من دعوة أو مذهب أو فرقة في خلال مئات قليلة من السنوات إلا وقد حرفت تماماً عن أصلها ما عدا الإسلام، فالأمم كلها من العقلاء والباحثين والعلماء الغربيين وغيرهم فضلاً عن جميع المسلمين تجمع على أن القرآن لم يحرف منه حرف واحد، ولم ينقص منه ولم يزد فيه حرف واحد، فمن الذي حفظه؟ إنه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، حتى تبقى المعجزة، والحجة قائمة على كل من ينتمي إلى أمة الدعوة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كل من على ظهر الأرض، فكل البشرية هي أمة محمد بعد بعثته، فـ كلينتون من أمة محمد، ونتنياهو وكل الكفار منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هم من أمته، أي: من أمة الدعوة التي بعث إليها محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان صلى الله عليه وسلم قد لحق بالرفيق الأعلى لكن أمته نائبة عنه في تبليغ شرعه، وإقامة حجته، ومعجزته باقية خالدة على مر الزمان.
قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: الظاهر أن (صَدُّوا) في الآية متعدية، والمفعول محذوف، أي: لو كان المفعول ظاهراً لم يبق خلاف في أن الفعل متعدٍ، فلو كانت الآية: (إن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله)، أو: (وصدوا الناس)، لكانت متعدية، لكن لما لم يذكر المفعول اختلفوا، فقال بعضهم: هي للتوكيد.
فلكلمة: (صدوا) تأتي لازمة وتأتي متعدية، فاللازمة لا تحتاج إلى مفعول به، مثل كلمة: خرج، ونزل، كأن تقول: فصد عني، وتعني: أعرض عني، أو أشاح بوجهه عني، وكقوله تعالى: {رَأ