قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) أي: طردهم وأبعدهم من رحمته، ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) أي: فأصمهم عن استماع الحق، ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، أي: قلوبهم عن الخير، أو أعمى أبصارهم عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد، والبعث، وحقيقة سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتبع الإخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه اللعنة، وسُلب الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل.
قيل: إن الله سبحانه وتعالى بعد ما قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، قال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) يعني: من فعلوا ذلك، (فَأَصَمَّهُمَْ) أي: عاقبهم، ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)).
وقال: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ))، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ))، فرجع من الخطاب إلى الغيبة، فهذا أيضاً التفات على عادة العرب في ذلك، وهذا فيه التفات للإيذان؛ لأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم.
أي: أنه كان في الأول: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) بتوجيه الخطاب إليهم، ((إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ))، ثم أعرض في الخطاب عنهم؛ لأنهم إذا فعلوا هذين الفعلين فلا يستحقون أن يخاطبهم الله مباشرة، فمن ثم انتقل إلى الغيبة فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك للإيذان بأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم.
قال عز وجل في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: فأصم آذانهم وأعماهم، وإنما قال: ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، والحكمة في ذلك أنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب الاستماع، ويلزم من ذهاب الأعين ذهاب الإبصار، فلو أن إنساناً قطعت أذنه فإنه لا يفقد حاسة السمع تماماً، لكن لا شك أنه سيتأثر؛ لأن الأذن لها فائدة عظيمة، لكن يبقى له السمع؛ فلذلك قال: ((فَأَصَمَّهُمْ))، فلو قال: فقطع آذانهم، أو ذهب بآذانهم لما دل ذلك على انتفاء السمع؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب السمع، ثم قال: ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، ولم يقل: (وأعماهم) لأن الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبصار.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى العينين مقدمتين، وجعل الأذنين في الجانبين، والحكمة في ذلك: أن العينين بمنزلة الكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم، وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه، أما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العقل من أمامه ومن خلفه وعن جانبيه، فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور، فسبحان من بهرت حكمته العقول! وكذلك جعل للعينين غطاء؛ لأن الأذن تجلب الأصوات، والأصوات عبارة عن طاقة لا بقاء لها، فلو جعل على الأذنين غطاء لذهب الصوت قبل ارتفاع الغطاء.
فتزول المنفعة المقصودة، وأما نظرة العين فأمر فائت، فالعين محتاجة إلى غطاء يقيها، وحصول الغطاء لا يؤثر في الرؤية قال بعض أهل العلم: عينا الإنسان هاديان، وأذناه رسولان إلى قلبه، ولسانه ترجمانه، ويداه جناحان، ورجلاه بريدان، والقلب ملك، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطاً ونفوذاً يقوم به بعضها مقام بعض؛ ولهذا يقرن بينهما سبحانه كثيراً في كتابه، فقال عز وجل: {ِإنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]، وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وقال أيضاً: {َفإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، إذاً: فالعبرة ببصيرة القلب لا بالعين الباصرة؛ ولذلك جاء في حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (انطلقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى، ونجد العلماء يقولون عند وصف العالم الضرير: الشيخ فلان بن فلان البصير بقلبه، وهذه إشارة إلى أنه لا يرى بعينه، لكنه بصير بقلبه، كيف لا وقد آتاه الله كتابه! فهذا تأدُّبٌ بأدب النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (انطقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار، وقال قتادة وغيره: معنى الآية: يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء.
وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى؟! ألم يسفكوا الدماء الحرام، ويقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله أخوة.
فإذاً: إذا كان المقصود بقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]: أن تقطعوا رحم الإسلام والإيمان بالقتل الذي يكون بين المسلمين، فالرحم على هذا هو عام وليس الرحم الخاص، فالمقصود به رحم الأخوة الإيمانية التي سماها الله أخوة بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
وعلى قول الفراء: أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية فالمراد: من أضمر منهم نفاقاً، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة؛ لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره.