نختم الكلام ببحث يتعلق بقوله عز وجل: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ))، فنحن نحتاج إلى بعض هذه المسائل المهمة أن تكرر بين وقت وآخر، فإن في التكرار تثبيتاً للمعلومات، وتنبيهاً للغافلين، وهذا البحث هو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، فقوله تبارك وتعالى هنا: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)) هذا التزيين: هو من جهة الله خلقاً وكوناً وخبراً، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يحبه ويرضاه، ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة، ويجوز أن يكون من الكافرين؛ حيث يزين بعضهم لبعض الكفر.
وقال الله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من شر الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فـ (ما) هنا: موصولة، أي: من شر الذي، ولا يجوز غير ذلك، والشر هنا مسند إلى المخلوق المفعول، أي: من شر ما خلقه الله، أو من شرِّ كل ما خلقه الله، أو من شر كل ذي شر خلقه الله.
فالشر هنا مسنود إلى المخلوق وليس إلى خلق الرب تبارك وتعالى الذي هو فعله وتكوينه، فالشر يكون من حيث إضافته إلى المخلوق، وأما من حيث الفعل والتكوين بصفته فعل من أفعال الله، فليس فيه شر بوجه ما، فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله سبحانه وتعالى، كما أنه لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق، والجلال التام، ولا عيب ولا نقص فيها بوجه ما.
وكذلك أفعاله سبحانه وتعالى كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه وتعالى لاشتق له منه اسم والعياذ بالله، فلم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم تعالى الله وتقدس عن ذلك! فالله سبحانه وتعالى لا ينسب إلى ذاته أو أفعاله أو صفاته أي شر على الإطلاق، فهو يتنزه ويتعالى عن الشر.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما هو شر بالنسبة إليهم هم، فالشر وقع في تعلق هذه الأفعال بهم وقيامها به، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة أي: المخلوقات المنفصلة، ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال: أحدهما: أن ما كان متضمناً للشر فإنه لا يكون إلا مفعولاً منفصلاً، ولا يكون وصفاً لله، ولا فعلاً من أفعاله.
والأمر الثاني: أن كونه شراً هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تقلقه بفعل الرب وتكوينه، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقاً وتكويناً ومشيئة؛ لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر الله بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد.
وفاعل الشر إنما يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فالله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، فلأنه غني وحميد لا يفعل الشر، ولا ينسب الشر إليه، فالشخص الذي يفعل الشر كالسرقة مثلاً فإنما يفعل ذلك لأنه متحاج إلى المال، ولأنه فقير، والشخص الشرير الذي يحب أذية الناس، إنما يفعل ذلك لأنه مذموم لا يستحق أن يحمد، ولله المثل الأعلى، وأما الله سبحانه وتعالى فهو غني حميد، غني عن خلقه، ومتصف بالحمد، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلاً، وإن كان هو الخالق للخير والشر، ونوضح ذلك بالمثال التالي، وهو: أن السارق إذا قطعت يده فذلك شر بالنسبة إليه، والشريعة حكمت بقطع يد السارق، فقطع هذه اليد بالنسبة إلى السارق هو شر، لكن ذلك خير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً، لما في ذلك من الإحسان إلى الناس عموماً، وهي خير بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الذي أمر وحكم بقطع يد السارق؛ لأنه بذلك يحسن إلى عبيده بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم، المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به، ومشكور عليه، ويستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة.
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، ورجم من يصول عليهم في أعراضهم، فإن كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم، فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟! فالله سبحانه وتعالى لا يضع رحمته ورضاه موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] * {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36] فهذا تعجب منهم، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، فنعم الله سبحانه وتعالى لا تليق بأعدائه الصادين عن سبيله، الساعين في خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره، فهم مضادون له في كل ما يريد، فيحبون ما يبغضه ويدعون إليه، ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه، ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]، وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فإذا عرفنا هذا عرفنا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك) أي: أن الشر لا ينسب إلى الله: لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فإن كل أفعاله من حيث كونها صادرة عنه عدل وحكمة ورحمة، فمن هنا لا يصح قول من قال في تأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك) قال: معناه والشر لا يتقرب به إليك، أو: والشر لا يصعد إليك، صحيح أنهم يريدون أن ينزهوا الله عن أن يصعد إليه الشر أو أن يتقرب إليه بالشر، لكنه قول لا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله، وقول المعصوم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن تنزيه الله في ذاته تبارك وتعالى عن أن ينسب إليه الشر بوجه من الوجوه، لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، أي: لا ينسب الشر إلى الله أبداً، فينزه الله سبحانه وتعالى عن الشر في ذاته وصفاته وأفعاله، مع أنه داخل في مخلوقاته، فالشر يضاف إلى المخلوقات كما في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2].
فمن حيث هو فعل الله هو خير، وهناك كثير من الحكم يمكن أن نتدبرها أو نفصلها في موضع آخر.