قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3].
((ذلك)): إشارة إلى المذكور من فعله تعالى بالفريقين من مؤمنين وكفار، حيث أضل أعمال الكافرين، وكفر سيئات المؤمنين وأصلح بالهم.
قوله: ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) أي: يسبب لهم الأسباب، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالاً، قال الزمخشري: فإن قلت: أين ضرْب الأمثال؟ ف
صلى الله عليه وسلم هو في جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين، أو أن المثل في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين.
فقوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ)) أي: إنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شئونهم؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)) وهو التوحيد والإيمان، ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) أي: يبين لهم مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم.
فالإشارة في قوله تعالى: (ذلك) إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار، ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره أي: الأمر ذلك، وهذا هو ما يعتمد عليه بعض القراء في مثل هذا الموضع بأنه يجيز الوقف هنا، فلو وقفت هنا بعد كلمة (ذلك) يكون المعنى: الأمر ذلك، ويكون إعرابها: خبر لمبتدأ محذوف، فكأن المعنى قد تم؛ ولذلك جاز الوقوف، وإن وقف عند قوله (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا) أي: الأمر ذلك بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم.
قوله: ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) الضمير في (أمثالهم) يرجع إلى كلا الفريقين: الذين كفروا، والذين آمنوا.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)) أي: ذلك المذكور من إضلال أعمال الكفار، أي: إبطالها واضمحلالها، وبقاء ثواب أعمال المؤمنين، وتكفير سيئاتهم، وإصلاح حالهم كله واقع بسبب أن الكفار اتبعوا الباطل، ومن اتبع الباطل فعمله باطل، والزائل المضمحل تسميه العرب باطلاً، وضده الحق، وقد سبق هذا مراراً في أثناء تفسير القرآن الكريم الحق الثابت الدائم الباقي، فالباطل معناه: الزائل المضمحل، فقال الله عز وجل هنا: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ)) أي: الزائل ومضمحل، ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ))، وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق، ومتبع الحق أعماله حق، فهي ثابتة باقية وليست زائلة مضمحلة، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن اختلاف الأعمال يستلزم اختلاف الثواب لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل، أي: لا يتوهم استواء المؤمن مع الكافر أو استواء أعمال المؤمن مع أعمال الكافر إلا كافر جاهل، وينبغي أن يستنكر عليه تسويته بين المؤمنين والكافرين، وهذا ما وضحه قوله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، فهذا معناه أنه يستوجب الإنكار عليهم؛ لأن هذا هو الذي فعله الله بهم، ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ)) الذين اتبعوا الحق من ربهم ((كَالْمُجْرِمِينَ)) الذين اتبعوا الباطل؟! لا يستويان، قال تعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
قوله تعالى: ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) سبق بيان معناه، وضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له.