تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله)

قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10].

(قل أرأيتم إن كان من عند الله)، يعني: إن كان القرآن منزلاً من لدنه سبحانه وتعالى عليَّ لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون.

(وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل)، أي: عالم من علماء بني إسرائيل، واقف على أسرار الوحي عن طريق التوراة التي يؤمن بها، (على مثله).

وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو موسى عليه السلام، (على مثله) أي: على التوراة.

وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو عبد الله بن سلام عالم اليهود وكبيرهم في المدينة وقد أسلم، (على مثله) أي: على مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المطابقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى، أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله شهادة على مثل شهادة القرآن؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله.

وقد يكون المثل هنا صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، وهذا تعبير معروف في اللغة العربية أن كلمة (مثل) تستعمل هذا الاستعمال، فقوله: (على مثله) أي: عليه، أي: على أنه من عند الله.

(فآمن) الشاهد وهو ابن سلام، (واستكبرتم) يا معشر اليهود.

والفاء تدل على أن هذا الشاهد سارع إلى الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه الشهادة.

(إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، هذا استئناف مشعر بأن كفرهم لضلالهم المتسبب عنه ظلمهم، وهذا دليل على جواب المحذوف؛ لأن الجواب هنا محذوف، فيقول: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم، أين الجواب؟ محذوف تقديره: ألستم ظالمين، أو فمن أضل منكم.

فيكون مثل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52]، فوافقهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم إنما هو لظلمهم.

يقول القاسمي: روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فتكون الآيات مدنية مستثناة من السورة؛ لأن عبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، فهذا هو السبب في أن بعض المفسرين قالوا: إن هذه الآية من الآيات المستثنيات؛ لأن السورة مكية، وقالوا: إن هذه الآية آية مدينة؛ لأنه إذا كان الشاهد عبد الله بن سلام فـ عبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة، وهذا استدلال غير قوي، لماذا؟ لأنه لا إشكال أن يخبر القرآن بذلك، وأن يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ويكون قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)، إخبار عما سيقع في المستقبل.

إذاً: السورة مكية، وهذا إنما هو إخبار عما سيقع من إسلام عبد الله بن سلام فيما بعد، فما الإشكال في ذلك؟ وتكون هذه من علامات النبوة، تماماً كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا} [الأعراف:48]، فهذا إخبار بالماضي عن شيء سيحصل في المستقبل.

ويرشحه: أن (شهد) معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً، فلا خير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره بها بياناً للواقع لا عن أنه مراد بخصوصه منها، هذا ما حققوه، وسواء كان هذا الشاهد عبد الله بن سلام أو غيره من علماء بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام فلا إشكال في هذا، فيكون معناها: أنه يصدق واقع استسلام عبد الله بن سلام وشهادته للقرآن وللرسول عليه السلام، فيعم كل من يشهد من علماء وأحبار بني إسرائيل للإسلام وللقرآن، فالمقصود أن اللفظ الكريم يتناول هذا الشاهد كما يمكن أن يتناول غيره.

وقال العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10]: التحقيق -إن شاء الله- أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها، فإن المثل في لغة العرب تطلق أحياناً على الذات مثلها، وهذا مشهور جداً في لغتهم كما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، معناها: ليس كالله شيء؛ لأن الله لا مثل له، فهذه الآية جارية على أسلوب عربي معروف وهو إطلاق المثل على الذات نفسها كقولهم: مثلك لا يفعل هذا، يعنون بذلك: أنت لا ينبغي لك أن تفعله، وعلى هذا فالمعنى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)): على هذا القرآن أنه وحي منزل حقاً من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له، ولذلك قال: ((فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، فهذا يرجح قول من فسرها بأنه شاهد على القرآن أنه حق من عند الله، فآمن هذا الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، بخلاف ما لو قلنا: (فشهد شاهد) وهو موسى عليه السلام، (على مثله) على التوراة، وماذا ستقولون في قوله: (فآمن واستكبرتم) في حق موسى عليه السلام والخطاب للمشركين؟ فأقوى وأوضح أن يقال: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) وهو عبد الله بن سلام، (على مثله) على القرآن نفسه، وليس على شيء آخر كالتوراة مثلاً؛ لما علم من لغة العرب أن المثل تطلق ويراد بها الذات نفسها، فآمن الشاهد وأما أنتم فقد استكبرتم عن الإيمان والانقياد.

وهذا كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، تفسيرها: كمن هو نفسه في الظلمات، وهذا أسلوب من أساليب العرب، وقال أيضاً تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، أي: فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق.

إذاً: القول المحقق في أمثال هذه الآيات: أنه لا يقال: إن (مثل) هنا بمعنى أنه يوجد مماثل آخر، وإنما المقصود هو نفس الشيء، فقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، تفسيرها: فإن آمنوا بما آمنتم به، وليس: فإن آمنوا بشيء آخر مماثل لما آمنتم به، ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، وكأنها قراءة تفسيرية.

والشاهد في الآيات هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية ليست مدنية كما سبق الجواب عن هذا، وأن القول بأنها مدنية غير لازم؛ لأنها في سورة مكية، بل يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل أن يقع، ويحمل قول من قال: إنها نزلت في عبد الله بن سلام على أن لفظ الآية يشمل عبد الله بن سلام وغيره، والله تعالى أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015