ثم قال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89].
هذا خطاب له صلى الله عليه وسلم، فادعاء أن الضمير عائد على عيسى عليه السلام لا دليل عليه، ولا وجه له، وما تضمنته هذه الآيات الكريمة من شكواه عليه الصلاة والسلام إلى ربه عدم إيمان قومه جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
وقال موسى عليه السلام شاكياً قومه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22].
وقال نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5 - 6] إلى آخر الآيات.
وقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، هذه الآية فيها قراءتان: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))، والقراءة الأخرى: ((فسوف تعلمون)).
يقول الشنقيطي رحمه الله: هذه الآية الكريمة تضمنت ثلاثة أمور: الأول: أمره بالصفح عن الكفار.
الثاني: أن يقول لهم: ((سَلامٌ)).
الثالث: تهديد للكفار بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار.
أما الأول: فقد أوضحه قوله تعالى: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ))، وقال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، وقال عز وجل: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48]، والصفح هو الإعراض عن المؤاخذة بالذنب، قال بعضهم: وهو أبلغ من العفو؛ لأن الصفح مشتق من صفحة العنق، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضاً عن عتابه فما فوقه.
وأما الأمر الثاني: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ))، فقد بين تعالى أنه شأن عباده الطيبين، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم هو سيد الطيبين عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وهناك كلمة في اللغة العربية على وزن المفاعلة، هي (المتاركة)، وهي أن يذهب كل في شأنه ويترك صاحبه، فهذا يعبر عنه بكلمة (المتاركة)، وهذا كما في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وكذلك قال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
وقال عز وجل عن إبراهيم أنه قال له أبوه: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47].
ومعنى السلام في الآيات المذكورة: إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم ومن مجازاتهم لهم بالسوء، فلا يتعارض النهي عن بداءة اليهود والنصارى بالسلام مع الأمر هنا بالسلام؛ فالسلام هنا المقصود منه المتاركة، وليس المقصود التحية، فالمعنى: أخبر هؤلاء الكفار بأنك لن تمسهم بأذى، وأنك لن تجزيهم بالسوء يعني: سلمتم منا؛ فلا نسافهكم ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
فمعنى (سلام): أننا لا نؤذيكم، فلا يجوز للإنسان أن يستعمل نفس الآية في المسافهة؛ لأن بعض الناس يريد أن يشتم خصمه ويصفه بالجهل، فيقول له: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وهو يقصد أن يصفه بالجهل، فهذه مسافهة، والمقصود بالآية: سلام عليكم أننا لن نؤذيكم، وهذه متاركة كما قلنا.
وأذكر أن في إحدى المحاكمات القديمة كان القاضي يسرد أسماء بعض الناس ويقول له: مذنب أم غير مذنب؟ فكان البعض يرد على القاضي بقوله: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
وهذا في هذه الحالة ناقض المعنى الذي تدل عليه الآية، والله تعالى أعلم.
أما الأمر الثالث الذي هو تهديد للكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة فقد قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وقال أيضاً: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67]، وقال: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4 - 5]، وقال: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3 - 4]، وقال أيضاً عز وجل: {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:6 - 7].
وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ))، وما في معناه منسوخ بآيات الجهاد، وجماعة من المحققين يقولون: ليس بمنسوخ، والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة والإعراض عنهم وصف كريم وأدب سماوي لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى.
فحتى لو وصل الأمر في مواجهة الكفار إلى حد القتل، فلا يعني ذلك أن يكون الإنسان سيء الخلق، وألا يتحلى بمكارم الأخلاق، فالقتل في محل يجب فيه القتال، وأما الصفح عن الجهلة والصبر على آذاهم أو الإعراض عنهم فهو وصف كريم وأدب سماوي ليس مما يدخله النسخ؛ لأن هذا من محاسن الأخلاق، كالعفو والإعراض عن الجاهلين.
قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الخاتمة من سورة الزخرف: ((فَاصْفَحْ)) أي: أعرض ((عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ)) لكم أو عليكم، أو أمري سلام، أي: متاركة، يقول القاسمي: فهو سلام متاركة لا تحية.
وقال الرازي: احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر، ثم قال: إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قول: سلام، وأن يقال للمؤمن: سلام عليكم.
والمقصود: التنبيه على التحية التي تنسب للمسلم والكافر، أي: فإن كان كافراً قلت: سلام، ولكن هذا الكلام الذي ذكره الرازي فيه نظر؛ لأنه جمود على الظاهر البحت هنا والغفلة عن نظائره، يعني: أن بعض الناس فهم من الآية أنك تقول للكافر: سلام فقط، لكن المسلم تقول له: سلام عليكم، وهذا فيه غفلة عن نظائره من القرآن، مثل قوله تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، فإنه استعمل كلمة (عليك) لأبيه وهو كافر.
وكذلك في الآية الأخرى في سورة القصص قال سبحانه: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، استعمل كلمة عليكم.
على أن الأكثر على أن الخبر هنا محذوف، والتقدير: (فقل سلام): أي عليكم، والمقدر كالمذكور، والمحذوف لعلة كالثابت، فالصواب أن السلام للمتاركة.
والله تعالى أعلم.
فإذاً: هذا السلام سلام متاركة، وليس سلام تحية، فإذا قلنا: إنه سلام متاركة لم يحصل تعارض بين فهم هذه الآية وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).
فالظاهر تحريم مبادأة اليهود والنصارى بالسلام، إلا إن كان على صفة عامة، مثل قول الله تبارك وتعالى حاكياً كلام موسى عليه السلام: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، فيمكن إذا دخلت مجلساً فيه مسلمون وكفار أن تقول: السلام على من اتبع الهدى، وأنت تقصد المسلمين.
وأيضاً: فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل الكتاب إلى هرقل سلم بقوله: (السلام على من اتبع الهدى).
كذلك يمكن أن تقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أما مبادأة اليهود والنصارى بالسلام فإن ذلك لا يجوز، كما بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهل يجوز ابتداؤهم بغير السلام؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء؛ فبعض العلماء يقول: يجوز أن تقول للكافر: كيف حالك؟ ونحو ذلك وهناك رواية عن الإمام أحمد أنه قال: هذا أشد من السلام.
وإن كان لا يوجد دليل على المنع من ذلك، لكن بعض العلماء قالوا: إذا هو بدأ بالسلام وأنت ترد التحية بمثلها فهنا يجوز أن ترد عليه بالسلام؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].
وعلى أي الأحوال نرجو أن يأتي وقت آخر نفصل فيه أحكام السلام إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))، أي: حقيقة ما أرسلت به في سمو الحق وزهوق الباطل.
والحقيقة أن هناك كلاماً فيما يتعلق بإعراب قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}.
قال القاسمي: قرئ: (وقيلَه) بالنصب عطفاً على (سرهم ونجواهم) في قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، وهذا القول ضعيف؛ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، أو أنه معطوف على محل (ساعة)؛ في قوله: ((وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))؛ لأنه مصدر مضاف لمفعوله، فهو في محل نصب، أو بإضمار فعل، أي: وقال قيلَه.
وقرئ بالجر عطفاً على الساعة، أو أن الواو للقسم، والجواب محذوف، أي: لأفعلن بهم ما أريد، أو مذكور، وهو قوله: ((إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)).
وقرئ بالرفع (وقيلُه) عطفاً على (علم الساعة) بتقدير مضاف، أي: وعنده قيله، أو مرفوع بالابتداء، وقوله: (يا رب) إلى آخره هو الخبر، أو أن الخبر محذوف، أي: وقيلُه كيت وكيت مسموع أو متقبل.
والله أعلم.
هذا آخر تفسير سورة الزخرف، ونشرع بعد ذلك إن شاء الله في تفسير سورة الدخان.