وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) هو عامة قريش؛ لأن كفار قريش لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عيسى، وسمعوا قول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك، كما عبد النصارى عيسى! وعلى هذا القول فمعنى قوله: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) أي: ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه.
وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] هذه الآية وإن كانت من القرآن المدني النازل بعد الهجرة إلا أن معناها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكررها عليهم كثيراً قبل الهجرة.
فالإشارة هنا إلى أن هذا المعنى كان ثابتاً عندهم وإن لم يكن قد نزل في ذلك نص هذه الآية من سورة آل عمران.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، ولا شك أن كفار قريش متيقنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في مكة قبل الهجرة ثلاث عشرة سنة لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم، وهم يعلمون أنهم مجادلون في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ))، التحقيق أن الضمير في قوله: ((هُوَ)) راجع إلى عيسى، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء: ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى.
قيل: لأنهم يتخذون الملائكة آلهة، والملائكة أفضل عندهم من عيسى، وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عُبد من دون الله، ولم يكن ذلك سبباً لكونه في النار، ومعبوداتنا خير من عيسى، فكيف تزعم أنهم في النار؟ وقال بعض العلماء: أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم، والمعنى أنهم يقولون: عيسى خير من آلهتنا في زعمك، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، وعيسى قد عبده النصارى من دون الله، فدلالة قولك على أن عيسى في النار مع اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أننا وآلهتنا في النار ليس بحق أيضاً.
وقوله تعالى: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) أي: لد مبالغون في الخصومة بالباطل، كما قال تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، أي: شديدي الخصومة، وقال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]؛ لأن وزن فَعِل كالخصم من صيغ المبالغة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الرجال عند الله الألد الخصم).
وقد علمت مما ذكرنا أن قوله تعالى: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) إنما بينته الآيات التي ذكرنا بيان سببها، ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها، فعلى القول الأول أنهم ضربوا عيسى مثلاً لأصنامهم في دخول النار، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية قوله تعالى قبلها: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]؛ لأنها لما نزلت قالوا: إن عيسى عُبد من دون الله كآلهتهم، فهم بالنسبة لما دلت عليه سواء، وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفاً، وعلى القول الثاني: أنهم ضربوا عيسى مثلاً لمحمد عليه الصلاة والسلام في أن عيسى قد عُبد، وأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يُعبد كما عُبد عيسى.
فكون سبب ذلك سماعهم لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59].
وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى يوضح المراد بالمثل.