ختم الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه الآية الكريمة بشيء هو حقيقة واقعة في فترة من الفترات في ظل الحكم الاشتراكي في عهد عدو الله عبد الناصر؛ حيث كانت هناك محاولة لتمرير مفاهيم الاشتراكية وفرضها على الناس، وجرت علينا الشؤم والبلاء في النظام، فإنها غصبت أموال الناس قهراً وظلماً، وحصل غير ذلك من المظالم التي ذاق الناس ويلاتها، فالشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى كان يعيش في تلك الفترة في الجزيرة العربية؛ فلذلك يشير إلى هذا الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الوقت، يقول: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وهي قوله كقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا)، وقوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71] ونحو ذلك من الآيات دلت على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وبذلك تحقق.
والعجيب أن العلامة الشنقيطي يتكلم بهذا الكلام في وقت كنا هنا في مصر ونحن تلامذة في المدارس نحفظ الميثاق أكثر مما نحفظ آيات القرآن الكريم، وكان لابد في أي موضوع تعبير أو موضوع إنشاء من أنك ترصعه بنص من الميثاق، وكأنه آية قرآنية! حتى قالت أمينة السعيد في يوم من الأيام: كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟ وبعض هؤلاء يقول: إن الإسلام لا يتصادم مع الاشتراكية! حتى ألف أحد الدعاة الكبار المشهورين كتاباً اسمه: الاشتراكية في الإسلام، وأجهد نفسه هو وغيره في محاولتهم أن يأتوا من الشرق ومن الغرب بدليل أو شبهة حتى يثبتوا أن الإسلام دين الاشتراكية، وكأن الإسلام تابع لمذاهبهم ولضلالهم! والعجيب أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يتصدى لهذا المفهوم في وقت كانت فيه هذه المفاهيم حقائق مقررة، وكان لا يستطيع أحد أن يوقفها أبداً، ومع ذلك هو يجهر ويتنبأ بفشل هؤلاء، ونحن الآن نعيش بعد سنوات طويلة من حقب الاشتراكية السوداء المهينة، ونراجع تلك الأيام، وكيف عذبت الشعوب وقهرتها، وأذلتها وأفقرتها، حتى نفس روسيا التي كانت منظراً فقط للأسلحة النووية، تتسول اليوم من الشرق ومن الغرب، وأمريكا تذلها وتجبرها على الركوع تحت أقدامها، وغير ذلك من التهديدات التي نسمعها بين الحين والآخر.
الشاهد من هذا الكلام: أن العلامة الشنقيطي يتكلم في جو ما كان أحد يتكلم بهذا الكلام فيه، بل كان الغالب والسائد في المؤلفات والخطب، والدروس والكتب والمطبوعات والإعلام، هو ترسيخ أن الإسلام هو دين الاشتراكية، وأن الإسلام يدعو للاشتراكية، وكانوا يرددون بيت لـ حافظ إبراهيم يقول فيه: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء يعني: يزعمون أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو إمام الاشتراكيين! مع أن الاشتراكية هذه أتت في وقت قريب، والله المستعان! وبعدما ذكر بقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71]، يقول: وبذلك تتحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس.
فهم يظهرون للناس أن الاشتراكية تحقق وتوزع الحق بين الناس بالتساوي، وهم ينتقدون غيرها من المبادئ والأنظمة، سواء كان هذا نظاماً رأسمالياً أو غيره فيقولون: النظام الرأسمالي فيه استغلال لكن الاشتراكية توزع الفرص على الناس بالتساوي، وفي الحقيقة هم يريدون أن يستأثروا بالثروات؛ ولذلك فإن زعماء الشيوعية كانوا طوال عمرهم يعيشون حالة من الترف أشد من حالة الأباطرة والقياصرة أيام المملكة القيصرية؛ فيقتنون أعجب أنواع السيارات في العالم كله.
يقول: مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها، ويتصرفوا بها كيف شاءوا تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور، والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينظم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير.
وكان النظام الشيوعي يوزع كل شيء بالبطائق؛ لأن مبدأ الشيوعية أن يعطي كل واحد حسب حاجته لا حسب قدرته وبذله، يعني: كل واحد يبذل للدولة حسب قدرته، ويبذل أقصى طاقته في الإنتاج، ثم يوزع على الناس حسب حاجتهم، وليس الذي يسعى أكثر ينال أكثر، بل ينال كل واحد حسب حاجته.
قال: وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس، بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال عز وجل: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135].