يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)): الكاف في قوله: ((كَذَلِكَ)) [طه: 99]، في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: نقص عليك من أنباء ما سبق قصصاً مثل ذلك القصص الحسن الحق الذي قصصنا عليك عن موسى وهارون، وعن موسى وقومه والسامري.
والظاهر أن (من) في قوله تعالى: ((مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)) للتبعيض، ويفهم من ذلك: أن بعضهم لم يقصص عليه خبره، وليس المقصود بها البيان؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر في موضع آخر في القرآن الكريم أنه قص عليه أنباء بعض الرسل، وبعضهم لم يقصه عليه، كما قال تبارك وتعالى في سورة النساء: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، وقال تعالى في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] وقال في سورة إبراهيم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [إبراهيم:9].
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر الذي له شأن.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أخبار الماضين.
أي: ليبين بذلك صدق نبوته، فالله سبحانه وتعالى من حكمة اشتمال القرآن الكريم على قصص الأنبياء السابقين الماضين: هو تأييد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة؛ لأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ الكتب، ولم يتعلم أخبار الأمم وقصصهم؛ فلولا أن الله أوحى إليه ذلك لما علمه، وهذا ما بينه تعالى في قوله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] أي: فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما كان لك به علم، وقوله تعالى في سورة هود: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقال أيضاً في سورة هود: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، وقال تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، وقال أيضاً في قصة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] يعني: لم يكن عندك علم بهذا الذي قصصنا عليك، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص:44]، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص:46]، وقوله أيضاً: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:45]، كل هذه الآيات تؤكد معنى واحد، وهو: أن هذا من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من مؤيدات نبوته وأعلامها؛ لأن المقصود أنك لم تكن حاضراً يا نبي الله تلك الوقائع، فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما علمته.
وقوله تعالى: ((كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)) أي: أخبار ما مضى من أحوال الأمم والرسل، وقوله: ((وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا)) أي: أعطيناك من عندنا ذكراً، وهو هذا القرآن العظيم، وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله عز وجل: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50]، وقال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58]، فالقرآن يسمى ذكراً، وقال أيضاً: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وقال أيضاً: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1]، وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، إلى غير ذلك من الآيات.
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه: أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم.
ثانيها: أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمه تعالى، ففيه التذكير والمواعظ.
ثالثها: أن فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: فإنه شرف لك ولقومك.
واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكراً، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43].
ويدل على الوجه الثاني في كلامه قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقوله تعالى: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].