قوله: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) يقول السيوطي: بأوامر ونواه كلفه الله سبحانه وتعالى بها، قيل: الكلمات هي مناسك الحج، وقيل: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وفرق شعر الرأس، وقلم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، كما جاء في بعض الأحاديث: (خمس في الرأس وخمس في الجسد)، ومنها كما ترون خصال الفطرة.
(فأتمهن) أي: أداهن تامات، (قال) الله تعالى له عليه السلام: (إني جاعلك للناس إماماً) أي قدوة في الدين.
وهذه من دقة السيوطي رحمه الله تعالى، إمام دين لا إمام دنيا كما سيأتي، وفعلاً هذا ما كان حيث جعله الله سبحانه وتعالى محل اجتماع الأمم كلها عليه، الأمم الثلاث اليهود والنصارى والمسلمون كلهم مجتمعون على حب إبراهيم عليه السلام، واتخاذه إماماً وقدوة، والجميع يدعون أنه كان على دينهم، حتى اليهود يزعمون أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى يزعمون أنه كان نصرانياً، وبلا شك أن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68] كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد، لكن الخلاصة: أنه إمام وقدوة لجميع الأمم، فقد اجتمعت الأمم على محبته وإمامته، واعترف به كل أهل الأديان، سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو المسلمون، ونحن نعلم الأحداث الأخيرة التي وقعت في مسجد الخليل، والمجزرة التي حصلت للمسلمين وهم يصلون في رمضان ناشئة عن اليهود، الذين يعتبرون أن لهم حقاً في هذا المكان، حيث يزعمون أن فيه قبر الخليل عليه السلام وبعض آله، فالمسجد مبني أساساً وكان فيه المسلمون، والمسجد نفسه مقفل من الداخل، فقالوا: إبراهيم هذا أبونا، وأنتم -أيها المسلمون- تقولون هو أبوكم أنتم، فلابد لنا من نصيب في المسجد، ثم قسموا المسجد من الداخل بحبل، جزء صغير لليهود يصلون فيه، وكانوا يصلون أحياناً مع المسلمين في نفس الوقت داخل المسجد، وإذا بالحبل يتسع في نصيب اليهود، وينحاز على نصيب المسلمين إلى أن بلغ تقريباً الشطر أو أكثر من ذلك، ولما وقعت هذه الحادثة كنا نقول: كيف تمكنوا وبهذه السهولة أن يدخلوا المسجد ويقتلوا هذا العدد من المسلمين وبهذه البساطة؟! ثم بعد ذلك عرف أن هذا هو الوضع، وأن المسجد مقسم بحبل من الداخل بين اليهود وبين المسلمين، وأن اليهود يدخلون في نفس الوقت يصلون مع المسلمين اعتداداً بأبيهم إبراهيم عليه السلام.
(قال ومن ذريتي) يعني واجعل من أولادي أئمة، وبعض العلماء قالوا: هي على الاستفهام، يعني: ومن ذريتي ماذا يكون؟ كأن إبراهيم يسأل، وهذا تفسير آخر، (قال لا ينال عهدي الظالمين) أي: لا ينال عهدي بالإمامة الكافرين منهم، فدل على أن الإمامة تنال غير الظالم.
نعود لبعض التفصيل في تفسير هذه الفقرة من الآيات، يقول تبارك وتعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم، ذكر الجميع -سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو مشركي العرب- ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام، تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي الذي لم يخالف عالماً قط على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء، وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هنالك مصلى تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر حث على الاقتداء به في توحيده وحنيفيته، كذا في ذكر الإسلام والتوحيد.
وهذا الربع من هذا الجزء يشتمل على معان عظيمة جداً في قضية الإسلام والتوحيد، وفي ذكر الإسلام والتوحيد.
(وإذ ابتلى) إذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التنويه، أي: واذكر لهؤلاء جميعاً من العرب واليهود والنصارى الذين يفتخرون بإبراهيم ويعتدون به عليه السلام، اذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ليتذكروا؛ لما فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم عليه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا في الآية التي قبلها مباشرة: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] أي: واذكروا -يا بني إسرائيل- إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتهون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرهم، أي: واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به، فوفوا وتمسكوا بالإسلام فكونوا مثله، فما لكم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله في إيفاء العهد، والثبات على الوعد؛ ليجازيكم الله على ذلك جزاء المحسنين؟