((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} لا أزال أسير وأمشي إلى أن أبلغ المكان الذي وعدني الله، ((أو أمضي حقباً)) يعني: إما أن أذهب إلى ملتقى البحرين فأجد فيه الخضر، أو أظل أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلوب.
قال المهايمي: ((وإذا قال موسى)) أي: اذكر للذين ((إن تدعهم للهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً)) لتكبرهم عليك: أنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه، ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم؛ لأنها هداية في الظاهر والباطن، وهداية الخضر إنما هي في الباطن، ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق كما احتاج إليه موسى.
(وإذ قال موسى لفتاه) والفتى: الشاب، كما في قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء:60] شاباً، وقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] يعني: شباباً.
قال الشهاب: العرب تسمي الخادم فتى؛ لأن الغالب هو استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام، ومحباً له، وذا غيرة على كرامته، ولذلك اختصه موسى رفيقاً له وخادماً, وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل، وفتح الله تعالى بيت المقدس عليه ونصره على الجبارين.
((فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا))، أي: مجمع البحرين، ((نَسِيَا حُوتَهُمَا))، أي: خبر حوتهما وتفقد أمره، وكانا تزوداه وأخذا الحوت في المكتل، ولما بلغا مجمع البحرين لم يطمئنا على أن الحوت معهما ونسيا هذا الحوت، ((فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ)) أي: طريقه في البحر، ((سرباً)) أي: مثل السرب في الأرض، وهو المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب.
((فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)).
((فلما جاوزا)) يعني: مجمع بينهما، أي: جاوزا مجمع البحرين، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت، ((قال لفتاه آتنا غدائنا)) أي: ما نتغدى به، ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) تعباً ومشقة، وبينت السنة أن هذا النصب لم يلقه موسى وفتاه حتى جاوزا مجمع البحرين، ((قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ))، أي: فإني نسيت خبر الحوت.
وإسناد النسيان إليهما: إما بمعنى نسيان طلبه والذهول عن تفقده لعدم الحاجة إليه، وإما للتغليب بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده، (نسيا حوتهما)، يعني: نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره، وعلى قول آخر: أن النسيان هنا هو من يوشع بن نون؛ لأنه قال: (فإني نسيت الحوت)، نسب النسيان إلى نفسه، فإذاً: (نسيا) بالمثنى تغليباً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده؛ فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر المالح، ومع ذلك يمكن إطلاق أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين المالح والعذب تغليباً، وإن كان يخرج من أحدهما فيصدق عليه أنه يخرج منهما، كقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، فالرسل من مجموع الإنس والجن وإن كانت الرسل لا تكون إلا من الإنس.
((وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)) يعني: أن أذكره لك، وتعرب (أن أذكره) على أنها بدل من الهاء، يعني: وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وقرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلاً، والباقون بكسرها، ((واتخذ سبيله في البحر عجباً)) أي: أمراً عجيباً إذ صار الماء عليه سرباً.
((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))، قال موسى: ((ذلك)) أي المكان الذي اتخذ فيه سبيله سرباً ((ما كنا نبغ)) أي: نطلب فيه الخبر؛ لأنه أمارة المطلوب، وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين وصلاً لا وقفاً؛ وبإثباتها في الحالين، وبحذفها كذلك.
((فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا))، أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامها يتبعانها، ((قصصاً)) أي: اتباعاً لئلا يفوتهما الموضع ثانياً.