قال الله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4].
أي: ينذرهم {بَأْسًا شَدِيدًا} من عنده، وهذا من عطف الخاص على العام: لأن قوله: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:3] شامل لكل الكفار سواء الذين قالوا اتخذ الله ولداً، أو غيرهم من الكفار.
وقد تقرر في فن المعاني أن عطف الخاص على العام يكون إذا امتاز الخاص عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة، تنزيلاً للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات، ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:97 - 98]، فهنا صفة حسنة ثم خص جبريل وميكائيل بالذكر مع أنهم من الملائكة، فهذا ما يسمى بالإطناب المقبول، فهو إطناب لكنه إطناب مقبول؛ لأنه جعل هذا النوع الخاص المذكور بصفات معينة كذاه أخرى اقتضت العطف، وكأنهما خارجان عن الملائكة.
ومن هذا أيضاً قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب:7]، خص هؤلاء بالذكر مع أنهم من النبيين، لأنهم أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومن الممتاز بصفات قبيحة ما جاء في الآية التي نحن بصددها: (لينذر بأساً شديداً من لدنه)، قلنا في التفسير: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً من لدنه، ومن هؤلاء الذين كفروا (الذين قالوا اتخذ الله ولداً)؛ لكن خصهم بالذكر هنا لامتيازهم في كفرهم بأنه من أشنع وأقبح أنواع الكفر؛ لأنه شتم لله سبحانه وتعالى بأن نسبوا إليه الولد؛ فإن الذين قالوا: اتخذ الله ولداً.
امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء، ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم.
والآيات الدالة على عظم فريتهم كثيرة جداً، كقوله هنا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:88 - 92]، لكن الله سبحانه وتعالى بمشيئته هو الذي يمسكها عن ذلك، وهذا القول يبلغ من شناعته أن السماوات تكاد من شدة الغيظ والانفعال والغضب والقشعريرة تكاد تشقق وتفطر، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:90 - 92].
وقال تبارك وتعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40].
والآيات مثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله سبحانه تعالى ثلاثة أصناف من الناس: اليهود والنصارى، إذ قال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) [التوبة:30] إلى آخره، والصنف الثالث مشركو العرب، كما قال تعالى عنهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]، يعني الملائكة في زعمهم.