لقد حُلَّى الكتاب في قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)) بأل العهدية، والمقصود بالكتاب هنا القرآن الكريم، فالمقصود به: الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، وهو عبارة عن جميع القرآن المنزل حينئذٍ.
ثم أخر الكتاب على الجار والمجرور فقال: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) ولم يقل: (الذي أنزل الكتاب على عبده)، مع أن حقه التقديم عليه؛ ليتصل به قوله سبحانه وتعالى: (ولم يجعل له عوجا)، ولو قال: (الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجا) لم يكن الكلام متصلاً في شأن الكتاب؛ لأن هذا الكتاب هو الذي لم يجعل الله له عوجاً.
ومعنى: (لم يجعل له عوجا) أي: ليس فيه اختلال في نظمه، ولا تنافٍ في معانيه، أو زيغ أو انحراف عن الدعوة إلى الحق، بل إن القرآن هو الدستور الذي يعالج ويزيل العوج؛ لذا فقد جعله فقد جعله الله سبحانه وتعالى: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:2 - 3].
ومعنى: (قيماً)، أي: قيماً بمصالح العباد، وما لابد لهم منه من الشرائع، فهذا وصف له بأنه مكمل لهم بعد وصفه بأنه كامل في نفسه: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً).
قوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، ولم يقل: (الكتاب الكامل)، من أل العهد؛ لأن أل في الكتاب هنا للعهد، وكأنه لا يوجد كتاب غيره باعتباره أكمل الكتب على الإطلاق، واختصاص هذا القرآن الكريم بالكتاب كأنه لا كتاب غيره، ثم قال: (ولم يجعل له عوجا)؛ فنفى عنه العوج، وأثبت له ضد ذلك، وهو أنه يقوم بالناس، ويصلح حالهم، ويعالج عوجهم، فقال: (قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه)، يقول: (فهو وصف له بأنه مكمَّل لهم بعد وصفه بأنه كامل في نفسه)، أو قيماً على الكتب السالفة مهيمناً عليها، أو قيماً متناهياً في الاستقامة والاعتدال، فيكون ذلك تأكيداً لما دل عليه من نفي العوج، مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له حسبما تنبئ عنه الصيغة.
وانتصبت كلمة (قيماً) بمضمر تقديره: جعله، وهناك قول آخر -وإن كان الأظهر ما ذكرناه- وهو: أن (قيماً) متعلقة بالقرآن الكريم.
وقلنا: إن الحكمة في تقديم الجار والمجرور على الكتاب ليتصل الكلام؛ لأن (قيماً) ستكون استمراراً لوصف القرآن الكريم، فهذا الوجه الأول، وهو الأظهر.
وأما الوجه الثاني: فقد ذهب القاسمي إلى أن الضمير في قوله: (ولم يجعل له عوجا)، وما بعده إنما يعود إلى كلمة (عبده)، وهو النبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: لم يجعل لعبده زيغاً ولا ميلاً، وجعله صلى الله عليه وسلم قيماً مستقيماً كما أمر في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، أو قيماً عليه الصلاة والسلام بأمر العباد وهدايتهم؛ إذ التكميل يترتب على الكمال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها أقيمت نفوس أمته مقام نفسه، فأمر بتقويمها وتزكيتها، ولهذا المعنى سمي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أمة، وهذه القيمية -أي: القيام بهداية الله- داخلة في الاستقامة المأمور هو بها، والأظهر هو الوجه الأول، وأن الكلام إنما هو في شأن القرآن الكريم.