قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5].
((قال يا بني)) صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر، فإن الصغير كما يكون أحياناً للتحقير يكون أحياناً للتمليح، فهنا المقصود به التعبير عن عذوبة اللفظ المصغر.
((فيكيدوا لك كيداً)) أي: فيفعلوا لهلاكك تحيلاً عظيماً متلفاً لك.
((إن الشيطان للإنسان عدو مبين)) أي: ظاهر العداوة، فلا يألو جهداً في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.
قال القاشاني: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى ربما يكون أوقع في قلب يعقوب عليه السلام ما يريده إخوته له، فيقع في النفس من ذلك خوف واحتراز إن كان مكروهاً، فهذا النوع من الإلهام يسمى: إنذارات، وإذا كان الإلهام مما يسر فيسمى بشارات.
فخاف يعقوب عليه السلام من وقوع ما سيقع قبل وقوعه، وهذا شيء مجرب، ويعبرون عن الإلهام أحياناً بالحاسة السادسة.
وهذا يحصل كثيراً ونسمع كثيراً من هذا للأمهات بالذات، لأن قلوب الأمهات رقيقة، فنسمع قصصاً كثيرة عن أمهات قالت في نفس الوقت الذي حصل فيه حادث للابن في مكان بعيد: إني أشعر بقلبي أن حادثاً حدث لابني، وهذا من الإلهام الذي يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، فكذلك ربما يكون ما وقع ليعقوب عليه السلام حينما قص عليه يوسف الرؤيا مثل هذا الخوف، فنهاه عن إخبارهم برؤياه؛ احترازاً واحتياطاً.
ويجوز أن يكون احترازه من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وأن قدره سيزيد على قدر إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك.
وتعلمون أن من آداب الرؤيا: ألا تقص الرؤيا إلا على حبيب أو لبيب، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحبيب لا يحسد، أما إذا قصصت الرؤيا على عدوك المناوئ لك فقد يحمله الحسد على أن يتعمد الإساءة في تعبيرها بشر؛ لأنها تقع على ما تعبر به.
أو (لبيب) أي: رجل عاقل له علم ودراية بالأصول وقواعد تفسير وتعبير الرؤى.
قال السيوطي في الإكليل: قال الكياالهراسي: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.
قال ابن العربي: في حكم العادة أن الإخوة والقرابة يحسدون، أي: أن هذه الآية الكريمة فيها بيان لهذا الأمر الذي يقع عادةً بين الناس، وهو أن الإخوة والقرابة يتحاسدون، والسبب هو أن الحسد يكون أقوى إذا كان هناك قاسم مشترك أو وصف مشترك بين طرفين.
مثلاً: اثنان مشتركان في علم، أو مشتركان في مهنة، أو مشتركان في قرابة من نفس النسق، فغالباً ما يقع الحسد بينهما.
فلذلك يكثر الحسد في الأقارب إلا من عصم الله سبحانه وتعالى.
ثم يقول ابن العربي: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فهذا فيه إشارة إلى قاعدة مقررة ينطق بها كل الناس: وهي أن الشخص الوحيد الذي يحب لك أن تكون أفضل منه هو أبوك، لذلك يعقوب عليه السلام ما تأذى بذلك، بل فرح لعلو مقام ابنه يوسف عليه السلام كما تنبئ عنه هذه الرؤيا فلم يتأثر بذلك، بل خشي من حسد إخوته له.
أما الأخ فإنه لا يود ذلك لأخيه، بخلاف المؤمن فإنه لا يكره خيراً لأخيه؛ لأن المؤمن لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ لكن ربما يكون الكلام هنا فيما زاد على القدر المتساوي، وإلا فهذه درجة من الإيمان موجودة كما وجدت في المهاجرين والأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فهناك نماذج في التقوى من البشر لكنها قليلة، فتجد من يحب لأخيه من الخير مثل ما يحب لنفسه.
أما الأب فهو الذي يحب أن يكون ابنه أفضل منه وخيراً منه غالباً.
قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة؛ تحرزاً من الحسود إذا عرف منه ذلك.