{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] أي: ليس من أهلك الموعود إنجاءهم بل هو من المستثنين لكفرهم.
لا ينبغي أبداً أن يفهم من قوله: ((إنه ليس من أهلك)) أنه ليس من صلبك؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]، أي: فخانتاهما في العقيدة وفي الإيمان، وليست الخيانة المعروفة بارتكاب الفاحشة؛ لأنه يستحيل أن امرأة نبي ترتكب الفاحشة، فبعض الناس قد يربط بين قوله: ((فخانتاهما)) وبين قوله: ((إنه ليس من أهلك)) فنقول: لا هو من أهله من حيث إنه من صلبك، لكن المقصود أنه من أهلك الذين استثنيتهم بقولي: ((وأهلك إلا من سبق عليه القول)).
أو ((يا نوح إنه ليس من أهلك)) أي: هو ليس من أهلك أصلاً؛ لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر، وذلك لقوله: ((إنه عملٌ غير صالح)) أو ((إنه عَمِلَ غير صالح)) في هذه إشارة إلى أن القرابة الحقيقية هي القرابة في الدين وأخوة الدين.
وكما هو معلوم لو أن رجلاً مؤمناً مات وترك مالاً كثيراً، ولم يترك من ورثته إلا ابناً له كافر، فبإجماع العلماء لا يرثه ابنه الكافر، وإنما يئول ماله إلى إخوانه المسلمين، فقدمت رابطة العقيدة على رابطة النسب، فكذلك قوله تعالى هنا: ((إنه ليس من أهلك)) أي: ليس من أهلك الذين هم على دينك وعقيدتك وقرابتك الدينية، ولا علاقة ولا موالاة بين المؤمن والكافر.
قال القاشاني: أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعنوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد صلى الله عليه وسلم من عصى الله وإن قربت لحمته.
يعني كما قال الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وسبب النجاة ليس إلا الصلاح، وهذا لم يكن صالحاً، وليس سبب النجاة قرابته منك بحسب القرابة اللحمية النسبية، فمن لا صلاح له لا نجاة له، وهذا سر إيثار كلمة ((غير صالح)) على عمل فاشل، أو عمل فاسد؛ لأن مناط النجاة إنما هو الصلاح.
وقد قرأ يعقوب والكسائي: (إنه عَمِلَ غير صالح)، أي أن ابنك عمل عملاً غير صالح، والباقون قرءوها بلفظ المصدر بجعله نفس العمل مبالغة كما بينا.
و (غير) على قراءة يعقوب والكسائي تكون مفعولاً به.
قوله: ((فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) أي: لا تلتمس مني ملتمساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه.
قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه أصلاً، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله كما هنا ((فلا تسألن ما ليس لك به علم)).
أما إن كان السؤال من أجل الاسترشاد واستفادة العلم فهذا لا حرج فيه.
قوله: ((إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) أي: أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم.
وقد تنبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عند ذلك التأديب الإلهي والعقاب الرباني وتعوذ بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].